جوائز نوبل في العلوم ومستقبل البشرية

07 أكتوبر 2022

عرض تعريف بالفائزين بجائزة نوبل للكيمياء في مؤتمر صحفي في استوكهولم (5/10/2022/فرانس برس)

+ الخط -

ثلاث جوائز لافتة في الطب والفيزياء والكيمياء لعام 2022، أعلنتها لجنة جائزة نوبل في الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم، خلال الأسبوع الجاري، لاكتشافات علمية تمسّ مستقبل البشرية، وتفتح آفاقاً جديدة في مجالات بحوث الجينوم وتطوير الاتصالات وعلاج السرطان.

منحت الجائزة في الطب لعالم الجينات السويدي المقيم في ألمانيا، سفانتي بابو (67 عاماً)، تقديراً لجهوده في تحديد الفروق الجينية التي كانت مجهولة بين الإنسان العاقل وأشباه البشر الذين انقرضوا قبل عشرات آلاف السنين. وفي الفيزياء، منحت جائزة لثلاثة علماء عملوا بشكل منفصل في مجال فيزياء الكم، لكنهم قدّموا إسهامات متوازية تتعلق بموضوع التشابك الكمّي التي تمهّد الطريق لتطوير تقنيات الاتصالات، هم الفرنسي آلان أسبيكت (75 عاماً)، الأميركي جون كلوزر (80 عاماً)، والنمساوي أنتون تسايلينغر (77 عاماً). وفي الكيمياء، ففاز ثلاثة علماء اكتشفوا تفاعلات تسمح بإنتاج مركّبات تُحسّن استهداف الخلايا السرطانية، من خلال تقنيات الكيمياء النقرية والكيمياء المتعامدة البيولوجية المستخدمة لاستكشاف الخلايا وتتبع العمليات البيولوجية. ويجري حالياً اختبار تلك العقاقير سريرياً، بحسب البيان الذي أعلن منح الجائزة للأميركيين كارولين بيرتوزي (56 عاماً) وكارل باري شاربليس (81 عاماً)، والدنماركي مورتن ميلدال (68 عاماً).

تتجلّى أهمية هذه الجوائز الثلاث في أنها تكافئ اكتشافات علمية تنطوي على تمكين البشرية من تطوير تقنياتٍ تنعكس مباشرة على طبيعة الحياة المعاصرة وشكلها ووسائلها، فالفائزون بجائزة الفيزياء أنجزوا (في مراحل متباعدة) تجارب عملية على الفوتونات المتشابكة، برهنت على صدق ما تنبأت به نظرية الكمّ سابقاً، ورفضه قطاع من علماء الفيزياء، في مقدمتهم صاحب النظرية النسبية، آينشتاين. وكانت تلك التنبؤات تقول إنه في حالة التشابك الكمومي، فإن الجسيْمات التي يجري فصلها عن بعضها تواصل التصرّف بشكل متعاكس في توقيت متزامن حتى لو كانت بينها مسافة كبيرة تتطلب سرعة تأثر تفوق سرعة الضوء، ما يعني إمكانية توقع سلوك أحدها البعيد بمعرفة سلوك الآخر القريب. ويتيح هذا الأمر تطوير تقنيات الفضاء، وتقنيات الاتصال، والتشفير، وأجهزة الاستشعار فائقة الحساسية، وتطوير سرعة الكمبيوتر إلى أضعاف غير مسبوقة، ما يعني أن البشرية مقبلةٌ على آفاق جديدة وهائلة من ثورة الاتصالات خلال السنوات المقبلة، تعتمد على المعلومات الكمومية.

اكتشافات علمية تنطوي على تمكين البشرية من تطوير تقنياتٍ تنعكس مباشرة على طبيعة الحياة المعاصرة وشكلها ووسائلها

أثبت العلماء الثلاثة عملياً ما توقعه الفيزيائي جون ستيوارت بيل عام 1964 في مبرهنته التي أشارت إليها لجنة نوبل في قرار منح الجائزة، بشأن افتراق النظرية الكمّية عن النظرية النسبية والفيزياء الكلاسيكية، على عكس ما ذهب إليه أينشتاين وفيزيائيون آخرون، اعتبروا ميكانيكا الكمّ غير مكتملة لوجود "متغير خفي" غير معروف، يفسّر السلوك الكمومي للجسيمات. لقد أثبت العلماء الثلاثة عدم وجود متغير خفي، وأن السلوك الكمومي طبيعة متأصلة في الجسيمات لا تنتُج عن متغيّر خارجي.

أما الفائزون بجائزتي الطب والكيمياء لهذا العام، فقد أنجزوا أبحاثاً ستنعكس على تطور الرعاية الصحية خلال السنوات المقبلة. وكان الفائز بجائزة الطب، سفانتي بابو، قد قاد بحثاً أسفر عن وضع التسلسل الجيني لإنسان دينيسوفان (أحد أنواع أشباه البشر انقرض قبل نحو 15 ألف عام) بعدما تم عام 2010 اكتشاف جزء من إصبع عظم أنثى من هذا الفصيل عاشت قبل نحو 41 ألف عام. ثم في بحث آخر، ساهم بابو في وضع التسلسل الجيني لإنسان نياندرتال (فصيل آخر من أشباه البشر انقرض قبل نحو 30 ألف عام). وبذلك أمكن تحديد نقاط الالتقاء في الخريطة الجينية بين الإنسان المعاصر وأشباه البشر المنقرضين، حيث كان معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا في ألمانيا، والذي يعمل فيه بابو، اكتشف خلال جائحة ڤيروس كورونا وجود منطقةٍ معينةٍ من كروموسوم 12 لدى الإنسان، مرتبطة بخطر الإصابة بأشكال حادة من كوڤيد 19، وهذا الجزء من الحمض النووي يشفر الجينات في جهاز المناعة، ويتم توريثه من إنسان نياندرتال في حوالي نصف الأشخاص خارج قارة أفريقيا، التي تعد الموطن الأصلي للإنسان العاقل، وخرج منها قبل نحو 70 ألف سنة إلى أوروبا وآسيا التي كان يعيش فيها أشباه البشر.

كذلك الحال في الكيمياء، إذ أنجز الفائزون بالجائزة لهذا العام عملاً عظيماً يقرّب البشرية من حل لغز أخطر مرضٍ يهدّد الحياة البشرية في العصر الحديث، وأحد أشدّها فتكاً وصعوبة في العلاج، هو مرض السرطان. وكان عالم الكيمياء الأميركي شاربلس قد توصل إلى النظرية المعنية بالتفاعلات المتعامدة الحيوية أولاً، ثم توصل، هو والدنماركي ميلدال، بشكل منفصل، إلى التفاعل الكيميائي اللازم لعملها، وبعدها توصلت الأميركية بيرتوزي إلى تفاعلات تفيد الكائنات الحية.

البشرية مقبلةٌ على آفاق جديدة وهائلة من ثورة الاتصالات خلال السنوات المقبلة، تعتمد على المعلومات الكمومية

يبقى أن نلاحظ أهمية ارتباط الجائزة بتكريم الإنجازات العلمية الكبرى المؤثرة في عالم اليوم، في مجالات العلوم التطبيقية التي تحسّن جودة الحياة بفضل ما تقدّمه من اكتشافات، فذلك يشجّع العلماء على مزيد من العمل الدؤوب الذي يرتقي بالبشرية، تماماً كما يحافظ على المكانة المرموقة التي تحظى بها الجائزة منذ منحها أول مرّة عام 1901، بناءً على وصية مؤسّسها الصناعي السويدي ومخترع الديناميت، ألفريد نوبل، عام 1895، فثمّة إذن في تكريم الجائزة كبار العلماء مصلحة للطرفين: الفائز والمانح.

ومن المؤسف أن عالمنا العربي ليس مشغولاً بمثل تلك الشؤون العلمية، انشغالاً حقيقياً يتجاوز الشكل الأكاديمي إلى الإنتاج البحثي، حتى أن العلماء العرب البارزين في العلوم التطبيقية، بمن فيهم الراحل أحمد زويل، الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999، إنما برزوا وتقدّموا في مسيرتهم العلمية بفضل وجودهم في الدول الغربية التي وفرت لهم البيئة البحثية المناسبة للإبداع والتفكير والتميز، بينما تمثل الحالة العربية المشغولة، على الأغلب، بالطائفية والقبلية وصراعات ما قبل الدولة، بيئةً طاردة للإبداع ومعادية للمعرفة. ليس مؤسفاً وحسب، بل يدمي القلب أيضاً.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.