جنرال فلسطيني كبير في قبضة إسرائيل الصغيرة
مُفزعٌ ومُروّعٌ ويكاد لا يُصدَّق ما تعرّض ويتعرّض له مدير مجمّع الشفاء الطبي في غزّة، الدكتور محمد أبو سلميّة، المعتقل في إسرائيل. قبل نحو أسبوع، وفي مؤتمر دولي عقد في عمّان عن إعادة إعمار القطاع الصحي في قطاع غزّة، تحدّث أحد المشاركين عن الأهوال التي تعرّض لها أبو سلميّة، فالرجل تعرّض لتعذيبٍ شديدٍ لرفضه تصوير فيديو يقول فيه إن المقاومة كانت تتّخذ من أنفاقٍ تحت مجمّع الشفاء مقرّاً لها، ما أدّى إلى كسر يديْه وقدميْه، وجعله عاجزاً عن السير والوقوف. وللإمعان في إذلاله، وضعوا سلسلة في عنقه، وأجبروه على التحرّك على أربع، وتناول الطعام بفمه في إناء يُوضع على الأرض، وهو ما أكّدته عائلته قبل أيام.
اُعتُقل أبو سلميّة في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بينما كان في سيارة تابعة لمنظمّة الصحة العالمية بعيد إخلاء مجمع الشفاء بالقوة، وكان في حينه يرافق المرضى الذين أُجبروا على الخروج من المجمّع مشياً كيلومترات عدّة. وتم ذلك بتنسيق من المنظمّة الدولية التي وعدت، بحسب المرصد الأورو - متوسّطي لحقوق الإنسان، بضمان سلامتهم، الأمر الذي دفع كثيرين إلى اتهامها بأنها ربما تكون قد سهّلت عن غير قصد اعتقال أبو سلميّة وزملاء له.
خلال نحو شهرين أعقبا 7 أكتوبر/ تشرين الأول كان الدكتور أبو سلميّة يقود واحدة من أعقد المعارك مع الجيش الإسرائيلي الذي حاصر المجمّع وهدّد باقتحامه عدة مرّات بمبرّراتٍ مزعومةٍ ثبت لاحقاً زيفها، قبل أن يتحوّل التهديد له شخصياً بالادّعاء بأنه يتستّر على وجود قيادة للمقاومة تحت المجمّع الذي يديره، لكن الرجل رفض تماماً إخلاء المجمّع أو حتى مغادرته، وأصرّ على بقائه فيه مع مرضاه، فإذا عاشوا عاش، وإذا ماتوا مات معهم. وخلال هذه الفترة، كان الصوت الوحيد الذي يسمعه العالم لمرضاه والنازحين في محيطه، سواء عبر استضافته في تغطيات الفضائيات العربية أو ما تيسّر له من مؤتمراتٍ صحافية، وخلالها كان يؤكّد أن ما تسعى إليه إسرائيل ترويج رواية زائفة تبرّر هجومها الدموي على غزّة والشعب الفلسطيني ومجمّع الشفاء. وجاءت الأحداث المتلاحقة بعد إخلاء المستشفى لتؤكّد كلام الرجل، وعطفت عليه رواية جيش الاحتلال التي قدّمت ادّعاءات كانت مثار سخرية الرأي العام حتى في إسرائيل نفسها، بل إن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك وجّه صفعة مدوية لهذه الرواية، بتأكيده أن الأنفاق التي قال الجيش إنه عثر عليها أسفل المجمّع بنتها إسرائيل بنفسها قبل أربعين أو خمسين سنة، لكن اعتقال أبو سلمية وثبوت زيف الرواية الإسرائيلية برمتها لم يمنعا جيش الاحتلال من الإصرار على هذه الرواية، والعمل على إجبار أبو سلميّة لتأكيدها، تحت التعذيب والإكراه، ومعاملته كالحيوانات لرفضه الانصياع له.
خلال عمليات تبادل الأسرى بعد نحو شهر من 7 أكتوبر، حرصت المقاومة الفلسطينية على بثّ فيديوهات لأسيراتٍ أفرجت عنهن، ومن بينهن شابّة ظهرت بوجه نَضِر ويد مُضمّدة. الشابة واسمها ميا شيم قالت إنها أصيبت خلال أسرها، لكن آسريها، وهم المقاومة، أحضروا من أجرى لها عملية جراحية استغرقت ثلاث ساعات، واعتنوا بها وقدّموا لها الدواء طوال فترة احتجازها. أما يوشيفيد ليفشتيز (85 عاماً)، التي أفرج عنها برفقة نوريت كوبر (79 عاماً)، فقدّمت شهادة نددت بها حكومة نتنياهو، واعتبرتها كارثة لإسرائيل ومكسباً لحركة حماس، فالسيدة التي حرصت على توديع أحد عناصر كتائب القسّام بدفء بيِّن، قالت إنهم (رجال المقاومة) عاملوها معاملة طيبة، وإنهم كانوا حريصين على عدم إصابتها ومن معها بالأمراض، وإنّ طبيباً كان يزورهم كل يومين أو ثلاثة.
لم يتمتّع أبو سلمية بأي شيء مقارنة بما حظي به المحتجزون الإسرائيليون لدى المقاومة، بل تعرّض لتعذيب شديد و"حيونة" مهينة تعكس ساديةً شاذّة تشكّل تجلياً متطرّفاً للنرجسية الإسرائيلية الجريحة التي لم ترتو بعد من الدم الفلسطيني.
ينتصر أبو سلميّة والفلسطينيون على جلاديهم لا أخلاقياً وحسب، بل وسياسياً ووجودياً أيضاً، وهو ما لا تعرفه إسرائيل، وإنْ عرفت فلا تريد أن تعترف به، فمنذ المسيح والضحية تنتصر وإنْ بعد حين.