جمهورية الغابة
كانت الغابة أشجارًا كثيفة وأنهارًا لطيفة، وجمهورية، ولم يكن فيها ملك ووزراء وقلاع وفيلة وأحصنة..
"ملك الغابة" كذبة افتراها الإنسان. ليس في حكايات الآباء والأمهات والأجداد للأولاد قبل النوم، وإنما بعد الاستيقاظ منه. وذلك أنَّ الإنسان طمع في كنوز الغابة، خشبًا فوق الأرض للحرق، وذهبًا تحت الأرض للسرقة، وماءً وحيوانات في الأقفاص للتفاخر أو التحنيط في غرف الاستقبال، فنوى غزو الغابة واحتلالها، فهجم عليها بآلاته المتوحشة، فثارت نخوة الحيوان غيرةً على وطنه، فدافع عنها، فتأخّر الإنسان وتقهقر، وفكّر في حيلةٍ واستدبر، فنظر إلى الحيوانات وتفكّر في أمرها، فوقع اختيارُه على الأسد مطيةً لحيلته وطول فتيلته، وكان سبب ذلك فخره وتيهه، فاصطاد واحدًا وحبسه في زنزانة شهرًا، لا يرى فيها شمسًا ولا قمرًا، حتى ضاع منه التاريخ بعد الجغرافيا، ولم يعد يعرف أهو صاحب اليافوخ أم قردٌ ممسوخ، وتمنّى لو كان أسدًا في سيرك يؤدّي نمرته وثبًا في حلقة النار، ويأكل أكلًا طيبًا، ويستمتع بمشاهدة الناس وهي تضحك منه، ويعود بعد انتهاء النمرة إلى زنزانته. استغرب الأسد أن آسريه يقدّمون له الكثير من الماء والنبات، وهو حيوانٌ من أكلة اللحم، ولا يأكل الفاكهة سوى بعد الطعام مع الشاي، واستيقظ يومًا فوجد نفسه حليق اللبدة عاري البدن، فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، اقتاده ضبعان، فمثل أمام الإنسان في غرفة التحقيق، رحّب به المحقق متهللًا: أهلا بك، يا ملك الغابة.
فقال الأسد وهو يستر عورته: أستغفر الله، إنما أنا واحدٌ من سكان الغابة ولست ملكًا.
قال له الإنسان: يا لك من ملك زاهد، لكن الحقائق تقول إنك أقوى حيوانٍ في الغابة.
قال الأسد الأسير: النمر أقوى مني، والزرافة أطول مني، والجاموس يقهرني مرّة وأغلبه مرّة، والنملة أقوى من الجميع، والبلبل أكثر حريةً من كل مواطني جمهورية الغابة.
تابع الإنسان كيده: لك لبدة ملكية حول عنقك مثل تيجان الملوك.
قال الأسد: وحلقتم لحيتي وجعلتموني مهرّجا.
قال الإنسان: سينمو لك تاجٌ جديد، ولا تنس أن من صفات الملكية زئيرك القوي، وله دويّ، ويصل إلى ثمانية فراسخ.
قال الأسد: للتيس لحية، وللخنزير أيضا، أما قوة الصوت، فالقرد العوّاء أعلى مني صوتًا، وصوت حشرة الزيز يصل إلى عشرة فراسخ.
ملَّ الإنسان وقال: لا أريد مزيدًا من الجدال، لقد وقع اختياري عليك، يا بطل الأبطال، وقرّرت جعلك ملكًا.
كان جائعا فقبل الصفقة، فقدّموا له طعامًا ملكيًا، فأكل وشبع وزوّجه الإنسان كلبة من غير مهر ولا صداق، وفي شهرٍ نمت له لبدة. قال الإنسان للأسد: يا جلالة ملك الغابة المعظّم، لكل ملك مملكة، ولكل مملكةٍ علم ونشيد وطني وحدود، وعرين الأسد يحدَّد ببوله، حتى إذا شمّه معتدٍ أثيم نفَر وهرب.
قال الملك الأسد، وهو ينظر إلى خريطة مملكته الواسعة: فمن أين لي ببولٍ أحيط به هذه الغابة الكبيرة؟
قال الإنسان: لقد صنعنا في مخابرنا بولا مثل بولك، وبللنا به حدود الغابة وتخومها، لم نترك بقعةً إلا وغسلناها ببولكم العطر. أما النشيد الوطني، فليس أرخص من كلمات الوطن، ولدينا شعراء وملحنون وخطباء.
خرج الأسد متوّجًا، مصحوبًا بحرسٍ ملكي ومع زوجته الكلبة السلوقية، وكان رأيه أن الملك الحقيقي ليس له حرس. الجبان هو الذي يخرج مع حرس وحاشية، الملك الحقيقي حاشيته الهيبة، وحرسه الجلالة. ومشى على سجادة حمراء، فوجد رائحة بوله في كل مكان، ولاحظ أن الغابة قد فسد ماؤها ومرعاها، فحزن كثيرًا، وغار على وطنه. وسأل الحيوانات عمن ارتكب هذه الجريمة، فأبرزوا له مرسومًا ملكيًا موقعًا منه بإجازة الجريمة، ووجد كلابًا برّية وذئابًا وضباعًا وغربانًا تصطاد الحيوانات الهاربة من الغابة بتهمة خيانة الوطن.
غدا الأسد الملك أسيرًا فاخرًا، يمشي على السجادة الحمراء، ويخطب في المناسبات القومية والوطنية بالكلمات الصفراء، ويستقبل الرؤساء ويودّع الكبراء. وتمنّى لو يعود مواطنًا من سكان جمهورية الغابة عندما كان سكانها كلهم ملوكًا؛ الفيل ملك النفير، والزرافة سيّد الأزياء، والثعلب في ذيله سبع لفّات، والغزال ملك الوثب العالي، والعندليب الموسيقار الأكبر، ولا تفوح منها سوى رائحة الأنهار والأشجار، وليس رائحة بول المصانع الحامض.