جذور "ثورة غزّة" في الجامعات الأميركية
لم تكن أي إدارة أميركية لتتخيّل يوماً أن يفجر قطاع غزّة صغير المساحة ثورة تحرُّر ضد السياسة الاستعمارية للولايات المتحدة، ورفضاً لتغوّل رأس المال على الجامعات الأميركية. ولم تكن أي إدارة سابقة لتعتقد أن غزّة ستكسر كل القيود التي وضعتها الجامعات الأميركية، وبخاصة النخبوية، لمنع بزوغ حركة طلابية بهذا التوسّع والتأثير؛ إذ اعتقدت المؤسّسة الاميركية الرسمية واهمة أن عهد الحركة الطلابية التي هزّت أميركا اعتراضاً على المشاركة الأميركية في حرب فيتنام (انتهت الحرب في 1975)، ودعماً لحركة الحقوق المدنية بقيادة مارتن لوثر كينغ قد ولّى إلى غير رجعة. لكن ما يحدث أعاد شبح تداعيات حرب فيتنام ونهوض حركة الحريات المدنية، أي إنها أعادت نهوضاً ضد الظلم وغياب العدالة في سياسات أميركا الخارجية والداخلية، بل أيقظت الضمائر وألهمت جيلاً جديداً بأخذ المبادرة وكسر الخوف ورفض كل تجليات تمويل (وتسليح) أميركا حروبها وحروب إسرائيل الكولونيالية، فما تشهده ثورة واعية تربط التحرّر بالعدالة الإجتماعية ومكافحة التمييز والاستغلال.
واضح أن المؤسّسة الأميركية لم تنتبه إلى عامل التجربة التراكمية للحركات الطلابية والاجتماعية، ونقل الراية من جيل إلى جيل، مستندة إلى تجهيل ممنهج وإعلام أميركي، في أغلبه غائب وخانع، مع الاعتراف باستثناءاتٍ مهمّة، والعمل الجبار للإعلام الأميركي البديل في الولايات المتحدة. بل إن المؤسسة الأميركية، ومعها الإعلام، استخفّت بالإنجازات المتقطعة منذ أكثر من أربعة عقود، وإنْ كانت متأثرة وليست مؤثرة، وقلما كانت كبيرة، والأهم أنها لم تتسع وتتحوّل إلى حركات ذات تأثير دائم. لكنها كانت موجودة، داخل الجامعات وخارجها، حتى بعد انحسار موجة الاحتجاجات الطلابية، التي اجتاحت الجامعات أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. ورغم كبح الجامعات لتشكيل تجمّعات طلابية، لكن ظهرت حركات منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي ضد التدخّل الأميركي في أميركا الوسطى والاحتلال الإسرائيلي، وبخاصة الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان خلال اجتياح 1978، وغزو لبنان وحصار بيروت عام 1982.
منذ تلك الفترة الصعبة، وبخاصة في عهد إدارة الرئيس رونالد ريغان، وحركات طلابية تتشكّل، تنجح أحياناً، وتُحاصَر في أحيان أخرى، لكنها تظهر وتنضمّ إليها أجيالٌ جديدةٌ كما ظهر في الاحتجاجات ضد الحربين على العراق 1991 و2003. وكذلك خلال القصف الأميركي لأفغانستان برزت التجمّعات الرافضة لما سُمي الحرب على الإرهاب وتداعياتها على حقوق الإنسان.
الأزمات الاقتصادية واستمرار الفقر والعوز أضعفا من تأثير النظام الأميركي في عقول الطلبة
برزت في منتصف السبعينيات من القرن الماضي وأواخرها حركة طلابية وفلسطينية، وبخاصة بعد إنشاء الاتحاد العام لطلبة فلسطين، الذي لم يكن موجوداً في أميركا قبل عام 1979، وإن كانت منظّمة الطلبة العرب المظلة الرئيسة للنشاط الطلابي فترة طويلة، وإن انقسمت حيال الخلاف بشأن إيران والعراق، وبعد ذلك بسنوات شهدنا صعوداً، ثم انحساراً لدور الاتحاد العام لطلبة فلسطين، نتيجة انقسامات الفصائل الفلسطينية وضعف دوره بعد اتفاقيات أوسلو 1993. وفي عام 2000 أنشئت حركة العودة، وأفرع للحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل (BDS) وتأسيس منظمة "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" التي أخذت بالانتشار في الجامعات الأميركية، بعد ولادتها في جامعة كاليفورنيا بيركلي التي تشهد احتجاجات نوعية أعادت مكانة مقهى "حرية التعبير"، الذي سمّي أصلاً من طلبة حركات مناهضة حرب فيتنام وحركة الحقوق المدنية في الستينيات.
هذا التلخيص السردي التاريخي ضروري لتحليل التحوّلات النوعية التي نرى تجلياتها في ثورة الجامعات الطلابية وانضمام أعضاء هيئات التدريس إليها، في تحدٍّ شُجاع لإدارات الجامعات والإدارة الأميركية وسيطرة المال الصهيوني واليميني على الجامعات وتطويعها أكاديمياً وسياسياً. إلا أنّ هذا التحوّل ليس في الحجم فقط، بل هناك تحوّل نوعي وقيمي في هذه الثورة الطلابية، فهي ثورة تربط بين جميع حركات المضطهدين في أميركا وخارجها، ففي العشرين سنة الأخيرة وأكثر، انضمّ طلبة عرب وفلسطينيون من خلفيات أخرى بعدد أكبر من قبل إلى الجامعات النخبوية، وحملوا معهم همومهم، وإن تباينت درجات وعيهم. وشهدنا أيضاً تحوّلاً في نوعية الأساتذة، فقد زاد عدد أعضاء الهيئات التدريسية التقدّميين، فعلاً وليس اسماً، فخفتَ تأثير تيّار الليبراليين "الانتقائي" في تبنّيهم حرية التعبير وتحرّر الشعوب بما يخدم السياسة الأميركية لصالح تيار فكري أكثر تقدّمية، كان موجوداً لكنه كان أقلّ ظهوراً وتأثيراً. فمن أسوأ ما كانت تقوم به الجامعات فترة طويلة، ولي تجربة كطالبة وباحثة ومحاضرة زائرة في جامعات مثل هارفرد وبيركلي، فرض منهجية تفصل بين الظلم الطبقي والنسوي وغياب العدالة الاجتماعية، وتغييب الترابط في أسباب القهر بين الشعب الفلسطيني ومعاناة سكان أميركا الأصليين وتاريخهم وحاضرهم، لكن هذه التقاطعات عادت إلى الظهور في الوعي الطلابي الأميركي، وكذلك عادت التقاطعات بين تجارب الشعوب التي خضعت لنير الاستعمار، وخاضت صراعات طويلة لتحرّرها إلى السردية العالمية للأحداث، فالنضال الفلسطيني مع انكشاف وحشية الاحتلال الإسرائيلي وفرضه نظام الأبارتهايد العنصري وجدا أصداءً في النفوس في الجامعات وفي العالم.
خفتَ تأثير تيار الليبراليين "الانتقائي" في تبنّيهم حرية التعبير وتحرّر الشعوب بما يخدم السياسة الأميركية لصالح تيار فكري أكثر تقدّمية
وبالرغم من أنّ إسرائيل لا تحترم تقارير حقوق الإنسان ومرافعات محكمة العدل الدولية، إلا أن ثورة غزّة أدخلت مفردات ومفاهيم كانت تريد أميركا طمسها، وركّزت الضوء على تقاطعات نضال الشعوب والمشهورين ضد الاستعمار والاستقلال. إضافة إلى انهيار نظريات تبرير الاستعمار وانتصار النظام الرأسمالي، فلم يتأثر بها الجيل الجديد، وبدت كنكتة سمجة لا يتقبلها عقل مستنير، فليس لصاموئيل هنتنغتون ولا لميلتون فريدمان وبرنارد لويس تاثير في تفكير قطاع واسع من الشباب، فالأزمات الاقتصادية واستمرار الفقر والعوز أضعفا من تأثير النظام الأميركي في عقول الطلبة، وجاء أيضاً صمود الشعب الفلسطيني واستمرار وحشية إسرائيل وافتضاحها، وخصوصاً خلال حرب إبادة فتحت العيون وتجاوز تأثيرها الأعراق والجنسيات، بما فيها انقلاب غير مسبوق بين طلبة يهود ضد إسرائيل.
كذلك إن الخطأ الجسيم الذي وقعت فيه إدارات الجامعات، بدءاً بإدارة جامعة كولومبيا، بقمع التظاهرات الطلابية، ومنع الطلاب من التعبير عن آرائهم باستخدام القوة المفرطة، هزّ بقوة، ليس فقط طلبة الجامعات الأخرى والهيئات التدريسية فيها، بل كذلك أهالي هؤلاء الطلبة والجمعيات المدافعة عن الحريات وحقوق الإنسان. إذ رأوا في هذا القمع اعتداءً خطيراً وتجاوزاً على "التعديل الأول" على الدستور الأميركي، الذي يؤمن أميركيون كثيرون بأنه هو الذي يعزّز مبدأ حرية التعبير التي تتباهى بها أميركا.
ما يحدُث خطوة، بل نقلة، في معركة تحرّر فلسطين، بل أصبحت غزة مُلهمة لتحرّر الشعوب، على الأقل من فكر التبعية الذي يفرّق بينها، لكنها لن تكتمل من دون تحرّك الشعوب العربية وامتداد هذه الحركة إلى الجامعات العربية، ولو بأشكال مختلفة، وفقاً لوضعها. لكن الجمود يضرّ ليس فقط بهدف إنهاء حرب الإبادة على غزّة، بل أيضاً بقدرة الشعوب العربية على المطالبة بحقوقها.