ثورة الجياع فعل تحرَّر أيضاً
هي ثورة جياع في سورية؟ ... في العام 2014، عندما كان سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار أقلّ من مئتي ليرة سورية، كانت الأسعار قد أخذت بالارتفاع، وصار السوريون يشعرون بخطر المستقبل، صار شبح الجوع يلوح قريبًا منهم، بل حتى أوشك أن يعضّهم حينها، هذا كان حالُهم ولسان حالهم، وكانت آلة الحرب تطحن أرواحهم وأجسادهم بوحشية، والبراميل التي تُلقى عليهم من الجو في بعض المناطق تقتلعهم من أمنهم وحاضرهم وماضيهم، وتشرّدهم هائمين على وجوههم في كل بقاع الأرض. وظنَ بعضهم، ومنهم كاتبة هذه السطور، أن ثورة جياع باتت قريبةً، قريبة، لكنها نأت. ولا أعرف إن كان الشعب السوري، من هول ما تعرَض له، هو الذي نأى حتى أوشك أن ينسى كل مفردات الحياة. لم تشتعل ثورة الجياع، وإنما هناك من التهم ثورة الشعب.
قيل إن أول ثورة في التاريخ كانت ثورة جياع حصلت في مصر ضد الملك بيبي الثاني، بسبب الفقر والجوع وتردّي أحوال البلاد في عهده، وكان قد بقي مدة طويلة في الحكم. كذلك ثورة الحرافيش في مصر المملوكية، وثورة الزنج في التاريخ الإسلامي، والثورة الأشهر في التاريخ الحديث، الثورة الفرنسية أيام ماري أنطوانيت. لا يمكن استثناء أن الجوع أحد الأسباب التي دفعت الشعوب العربية إلى الانتفاض في وجه حكّامها وأنظمتها في ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، فالفرد في الدول التي انتفضت كان يعاني الفقر، من جملة ما يعانيه، بدرجات متفاوتة بين شعب وآخر، إنما الجميع كان يعيش في ظروفٍ متردّية وتزداد انحدارًا، بينما ثروات بلادهم ومقدّراتها تُديرها أنظمة استبدادية تقوم على الفساد والنهب، وتمارس قبضتها الأمنية لمنع الشعب من المطالبة بحقوقه المنتهكة، وبحقّه في ثروات البلاد، لتحسين معيشته وضمان مستقبل لأولاده.
أي ثورة مطلبية هي ثورة تنشد الحرية، وبالتالي، لها أهداف سياسية، لأن الإنسان عندما يكون مرهونًا لظروفه لا يكون حرًّا، والفقر والجوع حالة تحاصر إرادة الإنسان وتدفعه، إذا ما تمكّنت منه، إلى خياراتٍ وسلوكٍ في الحياة ليست صائبة، بل قد تؤدي به إلى درك لا يرضاه لنفسه في الأوضاع الطبيعية والسليمة، وقد تدفعه إلى التخلي عن منظوماته القيمية والأخلاقية أمام التحدّي الوجودي، فليست المصائر التي يختارها الشخص تحت ضغط الفاقة والجوع هي التي يرنو إليها ويطلبها في الأحوال العادية. لذلك انتفاضة الشعب السوري هي انتفاضة حرّية وانتفاضة كرامة، وإذا كانت الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، وغيرها مما أطلق من شعاراتٍ في بداية الحراك 2011، قد صودرت وخنقت الحناجر الصادحة بها، واستبدُلت الثورة بحربٍ تتفرّد بصفات تكسر الصورة النمطية للحروب الخارجية والداخلية، فإن ضمير الشعب لم يمت، بل بقى يعاند الموت، وبقيت تلك الشعارات جمرةً تحت رماد الحرائق التي اشتعلت بأرضه، وهي الآن تعود إلى الحناجر، فتشحذ أوتارها وتشدّها وتعيد إليها دوزانها في مناطق عدة من التراب السوري، أكثرها زخمًا ووضوحًا في الجنوب، السويداء ودرعا، من دون إغفال المزاج العام في الساحل الذي طالما دين بمواقفه تجاه الانتفاضة الأولى، واتّهمت طائفة بأكملها بأنها حاضنة النظام ومقاتلة معه. هذا الحراك يجعل القلب يبتهج قليلًا بعد سنين القحط والحرمان من أي ومضة فرح، لكن هذه البهجة حذرة ومجروحة، فما زالت الذاكرة تنبض بالويلات التي مرّت خلال هذه السنوات، والسموم التي بثّتها بين فئات الشعب كل الجهات الضالعة في الحرب، وأولها النظام الذي لعب باكرًا على وتر الطائفية والأقليات، حتى جنح قسمٌ كبيرٌ من هذه الفئات نحو هذه الحالة المقيتة القاتلة لأي حركة نهوض.
غالبية الأسئلة والتحليلات التي تشغل الإعلام والمنصات كلها تدور حول النظام والتكهن بسلوكه أمام الانتفاضة الثانية للشعب السوري
وباكرًا في عمر الانتفاضة الأولى، علت الشعارات الطائفية، أولها كان انقسام الشارع بشأن رأس النظام، إذ ارتفع منذ الأسابيع الأولى شعار إسقاط بشّار الأسد ورحيله، وفي المقابل شعار "الأسد أو نحرق البلد"، وما تلا ذلك من تصنيفات وتوصيف للمواقف، وانهيار الثقة بشكل شبه كامل، حتى إن التمييز كان لا يُخفي نفسه في قبول بعض الشخصيات المعارضة التي تنحدر من الأقليات، خصوصا العلوية، فدائمًا ما كانت هذه الشخصيات ترى نفسها مضطرّة للجهر بلا طائفيتها ونبذها هذه الانتماءات كي تحظى بالقبول والثقة التي غالبًا ما تكون هشّة. وفي المقابل، صار كل من يعارض النظام من الأغلبية السنية عرضة للتصنيف تحت مسمّى إرهابي أو داعشي أو ينتمي إلى جبهة النصرة، أو في أهون الحالات من الإخوان المسلمين. وشهدنا الحرب الكلامية على منصّات التواصل، وما زالت مستمرّة، سباب وشتم ونعت بأبشع الألفاظ لكل طرف من الطرف الآخر، وصارت كلمة علوي أو سنّي بحد ذاتها "شتيمة" أو وصمة عار من كل طرف تجاه الآخر.
الثورة مستمرّة لا شك، وكل تعثّر أو فشل يشيع صيرورة جديدة، لكن الأهم بالنسبة لهذه الحركات الشعبية انتقاد التجارب وتفنيد العثرات والانتكاسات والتراجع والفشل في تحقيق الأهداف، أي لا بد من الرؤية النقدية الشفّافة والصريحة. وتأسيسًا على هذه الضرورة، الانتفاضة الحالية، وهي تتمدّد وتتّسع رقعتها، أمامها استحقاقات مهمة وأساسية، تحتاج إلى أن تفرز الانتفاضة قادة لها في هذه المرحلة، ونخبًا تستطيع الإمساك بزمام الأمور وحماية الثورة المنشودة من الانزلاقات التي كانت نتائجها كارثية، وساهمت في تعميق الشروخ بين مكوّنات الشعب السوري، الذي أجاد النظام في زرع الخوف والتوجّس فيما بين مكوناته.
غالبية الأسئلة والتحليلات التي تشغل الإعلام والمنصات كلها تدور حول النظام والتكهن بسلوكه أمام الانتفاضة الثانية للشعب السوري، خصوصا أن الظروف تغيّرت، داخليًا وخارجيًا، والنظام الذي اعتبر نفسه منتصرًا سوف تزجّه هذه الانتفاضة في ارتباك كبير، لكن ماذا عن الانتفاضة التي تزداد رقعتُها وتتمدّد؟
تحتاج الانتفاضة الحالية إلى الحماية من كل أخطاء الماضي، وأولها من التصنيفات القاتلة والمفردات التي تقضي على فكرة المواطنة في الوعي الجمعي التي يحلم الناس بها
لا تستقرّ الثورات خلال مدد محدّدة، ولا تسير كما يُخطط لها أو يُحلم بها، ودائمًا هناك شرارة تشعل الشعوب بعد أن تكون قد صارت أرواحها هشيمًا لا ينقصُه إلا هذه الشرارة، وهي كثيرًا ما تُخرج كل ما تراكم عبر الزمن من رواسب معيقة لمسارها السليم، وتجعله يطفو على السطح ويتحكّم في سلوك الجماهير، أو الشرائح المختلفة من الشعب، إذ من المعروف أن حتى الثورات الكبرى لم تكن كل فئات الشعب متفقة حولها وحول أهدافها وأدواتها، لكنها في مسيرتها هذه، التي قد تطول أكثر من المتوقّع، لا بد لها من أن تنقي نفسها، وتلملم أهدافها الأساسية، وتضع خططًا جديدة مستفيدة من أخطاء المراحل السابقة.
نرى أن المتظاهرين يردّدون الشعارات التي هي مطلب الثورة الأساس، الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، مع التأكيد على أنها ليست ثورة جياع، على الرغم من أن الشرارة التي أشعلتها ارتبطت بغول الجوع الذي صار بين الناس، خصوصا مع القرارات المعلنة أخيرا ورفع الدعم وانهيار الليرة. ولكن متابع منصّات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت أحد الميادين المهمة وتعكس نبض الشارع، يصيبه القلق والخوف مما يرى من تخوين وثأرية وتوعّد وطائفية مقيتة، ولا بد من الإشارة إلى أن الأطراف التي أدارت الحرب في السنوات الماضية كلها شغَلت جيوشها الإلكترونية في الوقت الحالي، لتأجيج النيران من جديد.
تحتاج الانتفاضة الحالية إلى الحماية من كل أخطاء الماضي، وأولها من التصنيفات القاتلة والمفردات التي تقضي على فكرة المواطنة في الوعي الجمعي التي يحلم الناس بها، خصوصا كلمة الأقليات، أو الأقلية التي تحيل في مفهوم المجتمعات السورية إلى الانتماء الديني أو الطائفي أو القومي، وليس إلى أقلية برلمانية أو تمثيلية سياسية، كما في الأنظمة الديمقراطية، كي تبقي على نقائها واستقلالها وزخمها وطريقها الواضح.