ثورة الأكاذيب البيضاء

05 مايو 2023
+ الخط -

قبل اليوم العالمي للكتاب، شاهدتُ فيلم "كذبة بيضاء صغيرة"، وخطر لي أن أقول في أول تعليق عليه: اقرأوا هذا الفيلم. ليس لأنّ بطل (الكتاب/ الفيلم) كاتب، بل لأنني لا أستطيع الإشارة إلى أيّ تفصيلٍ في الفيلم، من دون استعمال مفرداتٍ تتعلّق بالكتب وحدها، بالإشارة مثلاً إلى الصفحات بدل المَشاهد، وإلى النّهاية المنطقيّة التي تأتي خارج توقع القارئ. رغم أنّها المجرى الأنسب للماء، الذي سال في الفيلم حاملاً قصّة هامشية، تبدو فيها الشّخصيات خارج الزّمان والمكان.

يُدعى عاملٌ بسيط إلى مهرجانٍ أدبي، لأنّه يحمل اسم كاتب شهير، اعتزلَ الكتابة والعالم منذ عقدين، ولم يرَ وجهه أحد من قبل. في يوم من أيام الله العادية، تلقّى شرايفر العامل الدّعوة، بدل شرايفر الكاتب. رغم تردّده، قرّر قبولها عندما أخبروه أن هناك جائزة. ما يحدُث لاحقاً سيُحير المشاهد/ القارئ بسبب صعوبة الفصل بين الواقع وتخيّلات شرايفر المصاب بالانفصام. بين احتمال أن يكون الكاتب حقّاً أو أن يكون مجرّد مُدّع، تأتي النهاية. لكن، لأن الرّحلة كانت شائقة، فإن أي نهايةٍ ستكون منطقية بالنّسبة لبعضهم، وغير مقنعة لآخرين. بالنسبة لي، بدت الصورة التي استقر عليها شرايفر معقولة.

تقييمُ الفيلم متوسّط عند المتلقي، وهو التقييم نفسه للرواية التي اقتبس عنها، للأميركي كريس بولدن (Chris Belden). ربما لن يُبهر الفيلم الجميع، لكنّه ممتع وفريد يصعب الخروج من عالمه. رغم أنه لو أدّى دور شرايفر (بدل مايكل شانون) ليوناردو ديكابريو أو خواكين فينكس، لكانت الشّخصية وما تعيشه من ارتباك بخصوص هوية شرايفر الحقيقية أعمق وقعاً.

وحين نتحدّث عن روايات بول أوستر نجد أنفسنا نقول: شاهدوا هذه الرّواية. في "ثلاثية نيويورك" تنهمر مع كلّ صفحة الألوان والأثاث والتفاصيل الصغيرة التي تفتتن بها شخصياتها. أوستر العاشق للتفاصيل ككاميرا سينمائية، بلغ هوسُه قمّته في "بلاد الأشياء الأخيرة"، وهي من رواياته المفضّلة عندي. مع العلم أن أوستر لا يعيش خارج السينما، بل هو داخل الصناعة السّينمائية، لأنه كتب سيناريوهاتٍ وأخرج أفلاما، لذا لا يصعب تفسير انشغاله المحموم بالصورة.

في عمله الضخم، "1234"، يضع أربع احتمالات لحياة بطل الرواية. وهي احتمالاتٌ قائمة على التفاصيل التي تحدّد مسار حياته. ولكنها هنا تصبح عبئاً على القارئ. ومن ذلك أنني توقّفت عند النسخة الثانية لحياة آرتشيبالد إسحاق فيرغسون، ولم أقدر على قراءة الاحتمالين الأَخيرين لحياته، بسبب كثرة التفاصيل في عمل ضخم. وهي بقدر اختلافها، إلا أنّها لشدّة عبثها بالوجوه العديدة للشّيء نفسه، تعبث بعقل القارئ. ربما لو كانت الرواية أقصر بالنّصف مثلاً، لتحمّلناها إلى النّهاية كأكاذيب بيضاء صغيرة. هنا يظهر عيبُ الكتابة السينمائية لغير السينما، وهي ثرثرة الصّورة، فالصورة على الشاشة ليست نفسها على الورق. إذ تحتاج الثانية تقنينا لنِسبها، حتى لا يفرّ القارئ من توالي الصّور مثل شلالٍ في نهر، فما الحاجة إلى مزيد من الماء حين تكون في بلاد الماء؟

في فيلم "رابطة الشّعراء الموتى"، هناك كتابة كثيفة، تسرق الضّوء من الكاميرا فنستعذبُ جملة أو حواراً أكثر من الصورة، وبُعدَ شخصيةٍ أكثر منها. في المغرب، هناك روائيان تشعر أنك تشاهد رواياتهما لا تقرأها، عبد الكريم الجويطي ويوسف فاضل. وإذا أردنا تفسيراً، فكلاهما يكتب السيناريو. هل تأثرت الكتابة الروائية عندهما بإجادتهما اللغة السينمائية؟ أو العكس، دخلا إلى السينما بسبب طبيعة كتابتهما التي تميل إلى الشكل السينمائي؟ وحدهما يعرفان الجواب.

أُحبّ نموذجي روايتين لهما، تدوران في مغرب السّبعينيات خلال سنوات الرّصاص. تحملنا "طائر أزرق يحلّق معي" ليوسف فاضل، نحو المعتقل الرهيب، إلى زنزانة أحد المحبوسين في "تزمامارت" التي تشبه حفرة. فنقترب من جسده النّحيف بسبب الجوع والحرمان الكلّي من مقوّمات الحياة الإنسانية، بل الحياة بأكملها، فحتى الدوابّ لا يمكن أن تعيش في هذه الظروف. فيما تروي "ثورة الأيام الأربعة" لعبد الكريم الجويطي قصّة ثورة لم تكتمل. منذ أول لحظة، مع انطلاق قافلة الثوار من مدينة بني ملال إلى وادي إيرس. مع كل التفاصيل، الشخصيات، الوادي ومنازله، نرى الرواية ولا نقرأها، خصوصا مع المسار السوريالي لثورة الأيام الأربعة، المقتبسة من أحداثٍ حقيقية في السبعينيات.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج