عنزة نتنياهو
صحيح أنّها عنزة، لكنّها تطير، صحيح أنّ إسرائيل هي التي تَقصف وتُبيد، لكنّها الضّحية. المنطق لا يهمّ هنا طالما أنّ المُفترِي يملك الصوت الأكثر صَخباً، وثمّة جمهور متحمّس لتصديقه. لهذا يتفانى نتنياهو في ما يُجيده، الكذب في وجه الحقيقة، وليّ عنق التاريخ، ومنح الأكاذيب أجنحةً وزعانفَ وأقداماً، حتّى يُوفِّر لرعاته الغربيين حُجَجَاً للوقوف بجانبه، وليردّد الإعلام الغربي خلفهم آمين.
في فيديو على "يوتيوب" يتحدّث عن أفلام بطلها جهاز الموساد، كتب هنديٌّ تعليقاً أسفله: "أُحيّي هذا البلد الشجاع". تعليقٌ مضحك لأنّ صاحبه كان جادّاً، ومحزن لأنّه معبّر عن قوّة تأثير الخطاب العنصري المدسوس في ثوب دولة "وديعة"، ما تريد هو أن تعيش بسلام في وسط محيط إرهابي استبدادي. وهم لا يصنعون هذه الحبكة بـ"شجاعة" فقط، بل يرفقونها بدموع التماسيح وأنف بينوكيو ولؤم السّامري.
وخلال هذه الحرب المسعورة، وبعد أن استُنفِدت جبهةُ غزّة، ولم يعد لصولات نتنياهو المسرحيّة الصّدى نفسه، نقل ثقله إلى جبهة لبنان التي وفَّرت له رزقاً كثيراً يُغني رصيدَه الحكواتي. فمواجهةُ حزب الله التي اتّخذها ذريعة لاجتياح البلاد كانت شيكاً على بياض، استعاد به بعض الطّاقة، وعاد الاحمرار إلى وجنتيه، لمواصلة دوره المسرحي أمام جمهور أعمى البصيرة.
كثيرون يُمسرحون ما تفعله إيران، لكنّهم لا ينتبهون إلى مسرحيات بنيامين نتنياهو. إذ لم يُقدَّر ممّثل دور المُفترِي في تاريخ المسرح. فما من أحد امتلك هذه العزيمة العنيدة التي لا ترتخي. ربّما لأنّها عزيمةُ هالك، وأنفاس مُحتضر يعرف أنّه إن خفّف من غلوائه، فسيسقط في السّجن أولاً، وسيسقط في تاريخ "دولته" باعتباره السياسي الذي ضعفت إسرائيل في عهده. والحقيقة أنّه سيذكره بأنّه القائد الذي فقدت إسرائيل رشدها في زمنه.
في كتابه ذائع الصّيت "العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري" (صدر بالإنكليزية في 2014) وصف الإسرائيلي، يوفال نوح هراري، المنطقة التي ينتمي إليها بأنّها قابلة للاشتعال، أحياناً من دون سبب منطقي، رغم أنّه يعترف بتعقّد التاريخ هناك. مثلما يحدث عند تعثّر شخص بمزهرية في متجر صينيات، فيؤدّي وقوعها إلى انكسار عدد من المشغولات الصينية. أيّ أنّها حروب قد تندلع لمُجرَّد سوء حظّ أو سوء فهم. نعم تماماً يا نوح، المنطق يشدّ شعره هناك!
غزارة الأمثلة هي الرصيد المعرفي الذي تقوم عليه هذه النوعية من الكتب، عبر محاولة إقناعك بفكرة واحدة على مدار مئات الصفحات، بحشد أمثلة من كلّ علم وجنس. لكن في كثير من الحالات السّند غير موضوعي، وأصحابه من التيّار الأيديولوجي نفسه، وبعضهم لا وزن معرفي له.
يحاول هراري إضفاء مسحة من المصداقية على كتابه في ما يتعلّق بانتمائه الجغرافي والأيديولوجي، بانتقاد بعض عادات اليهود، وبذكر المسلمين بحياد، لكن كيف يكون محايداً وقد تشرّب ثقافةً كان أولى أن يعاديها لو كان "مفكّراً" محايداً. وكمن يسعى إلى صنع تاريخٍ لبلاده، يعرج على تاريخ بلدان العالم، وعبثاً يحاول تقديم صورةَ أُسرةٍ إسرائيلية طبيعية وعادية مساوية لأيّ أسرة في العالم، لا تختلف أسئلة الأطفال فيها عن البقية.
ماذا سيسأل الطفل الإسرائيلي، وهو يرى الجدار الفاصل، وكثرة الحواجز الأمنية، وعزل مناطق بأكملها، والهوان الذي يتعرّض له بعض الفلسطينيين؟ لماذا نقتلهم؟ هل هم لصوص؟ ومن أين هم؟ ولماذا جاؤوا إلى بلادنا؟ ... لنتخيّل كمّية الأكاذيب التي ستدخل أُذنَ الطفل ذلك اليوم لتفسير هذا الوضع، وكيف أنّ لهم الحقّ في الوجود في هذه الأرض وأنّ أصحابها إرهابيون.
لكنّه قدّم نموذج سؤال عادي، قد يسأله أيّ طفل يكتشف تعدّد الديانات. ولتفسير وضعية المنطقة، ولاحتمال اندلاع حرب فيها، لجأ إلى استعارة ما حدث بين ألمانيا وفرنسا عام 1913، حيث اتفقت الدولتان على عدم مهاجمة إحداهما الأخرى، لكن عاماً بعد ذلك بدأت الحرب العالمية الأولى. هنا تتمثّل المفارقة في رمزية ألمانيا النازية، واجتياحها فرنسا الأنوار. من النازي ومن البريء في قصّة أحدهم يا نوح؟