ثلاث أيقونات فلسطينية جديدة
خلال الأشهر القليلة الفائتة، تسوّد بياض هذه الزاوية، في مناسبتين متماثلتين، بنصّين مفعمين بالاعتزاز والزهو، موجّهيْن إلى ست نساء تلألأن كالأقمار في عتمة هذا الليل الفلسطيني الطويل، حيث كانت الأولى منهما موجّهة إلى الفريق النسائي في طاقم قناة الجزيرة العامل في الضفة الغربية، تحت عنوان "ثلاث مقدسيات يرفعن الرأس" في مقدّمتهن شيرين أبو عاقلة قبل استشهادها بأسبوعين، فيما كانت الثانية تخاطب ثلاث نساء فلسطينيات متميّزات، بينهن شيرين أيضاً، إلى جانب رشيدة طليب عضو الكونغرس الأميركي، وعارضة الأزياء بيلا حديد، التي يتابعها على منصّة إنستغرام نحو 150 مليون إنسان، وذلك تحت عنوان "ثلاث شموس فلسطينية".
أما زاوية هذا الأسبوع فمخصّصة للثناء على ثلاثة شبان أفذاذ، أو قل ثلاث أيقونات من القماشة ذاتها العصية على التهتك أو الاختراق. أولهم خليل عواودة، صاحب أطول إضراب عن الطعام في تاريخ حركات التحرّر الوطني، دام نحو ستة أشهر إلى أن انتزع حقه في الحرية، وقد أوفيناه، في حينه، قدراً قليلاً من حقة الكثير على شعبه المرابط في فم الغول. وثانيهم إبراهيم النابلسي، قائد كتائب شهداء الأقصى في الضفة الغربية، الفتى ابن العشرين عاماً، الذي استشهد واقفاً كشجرة باسقة على سفوح جبل جرزيم، في معركةٍ بطوليةٍ مع قوات الاحتلال دامت نحو أربع ساعات، وشيّعته مدينته في جنازة مهيبة تليق بالأبطال. أما ثالث هذه الأيقونات فهو عدي التميمي، موضوع هذه الإطلالة.
ردّ كل من خليل وإبراهيم وعدي، كل على طريقته، الاعتبار لمفهوم الفدائي، وفق ما كانت عليه دلالات هذه المفردة في بدايات الثورة الفلسطينية، تلك التي أطلق عليها القائد العسكري الفيتنامي، الجنرال جياب، ثورة بساط الريح، وقال عنها جمال عبد الناصر إنها أنبل ظاهرة عربية نشأت بعد حرب حزيران، كما بثّ هؤلاء الفتية الأشداء، رسالةً موجزة إلى مجايليهم، جوهرها أن البطولات الفردية يمكن لها، عبر التراكم الكمّي، أن تُحدث التحوّل النوعي، وأن تشقّ الطريق نحو تحقيق المعجزة الوطنية فيما بعد، تماماً على نحو ما حقّقه الفدائيون الفلسطينيون، من استعادة هوية، وتأكيد حضور، ومن ثمّة إقامة أول رأس جسر على أول أرض متاحة من فلسطين.
وصاغ هؤلاء الأبطال الميامين الثلاثة رسالة واحدة بثلاث نسخ متطابقة إلى أبعد الحدود، مفادها بأن الاحتلال المتعبّد في محراب القوة، ولا يفهم من لغات الأرض غير لغة الحديد والنار، لن يصحو من سكرة القوة هذه إلا على أزيز الرصاص، ولن يستجيب لأبسط الحقوق المشروعة، من غير تفعيل كل ما في المعدن الوطني الفلسطيني من بأسٍ شديد وإرادة صلبة، على نحو ما تجلّت عليه هذه الإرادة لدى الأسير خليل عواودة، وفاضت بطولة استثنائية عند شابيْن لم يبلغا العشرين من العُمر، الفدائي الرائع إبراهيم النابلسي والفارس المقدام عدي التميمي.
ولعل الفارق النوعي في المواجهة التي قادها البطل إبراهيم في نابلس بجرأة الأسد الهصور، طوال عدة سنين، وهو بعد في سن الفتوة، ناهيك عن وصيّته بالصوت، من خلال هاتفه المحمول في لحظات المقاومة الأخيرة، أن احملوا السلاح، يا إخوتي، هما اللتان ألهمتا رفاقه المقاتلين بتكوين ما صار يُعرف من بعده باسم "عرين الأسود" في المدينة التي كان صلاح الدين الأيوبي قد أطلق عليها لقب "جبل النار" اعترافاً ببسالة جندها في معركة حطين الفاصلة مع الصليبيين، وها هي اليوم تقضّ بمضاء أسودها مضاجع المحتلين.
وأحسب أن الفارق الذي لا تُخطئه العين، أن إبراهيم النابلسي، الذي استشهد واقفاً، كما سبق ذكره، كان في حالة دفاع خاضَ في جلجلتها، بدمائه الحارّة، الحرب حتى النفس الأخير، فيما مضى عدي التميمي إلى خلودِه في ذاكرة شعبه، وهو في وضعية هجومية، حيث قاتل بمحض اختياره، وبجرأةٍ عز نظيرها، في موقعيْن محصّنين، مدركاً أن مسدّسه الصغير لن يكنس الاحتلال (حسب وصيته المكتوبة بخط يده)، إلا أنه كان يدرك سلفاً ما سوف تصنعه هذه البسالة الملحمية، وهذه الفروسية النبيلة، من إلهام عظيم لجيل أبناء العشرين سنة في محيطه الوطني، وما يثيره هذا العمل المُجيد من اتساع نطاق ظاهرة القتال وجهاً لوجه، ومن مسافة صفر، ناهيك عما تؤدّي إليه مثل هذه الواقعة من علو همة وارتفاع هامة لدى شعبٍ تحت احتلال غاشم، لا يخشى العبوات الحارقة، أو الرشق بالحجارة، أو حتى إطلاق النار عن بعد، بقدر ما يرعبه القتال والعين بالعين، وما يخشاه من شيوع حالة عدي.