ثقافات وفنون تواكبان مونديال قطر
أمّا وأن كأس العالم مناسبةٌ رياضيةٌ كروية، يحتفل في أثنائها ملايين البشر في كل أركان الأرض باللعبة الأكثر إمتاعا، فهذا من بديهيّ المعلوم، غير أنها أيضا، في الوقت نفسه، مناسبةٌ ثقافيةٌ حضارية، تتلاقى فيها إبداعات الشعوب في غير نوعٍ فنيٍّ وجمالي. وإذ يترقّب العالم مونديال قطر 2022، على مبعدة ثلاثة أسابيع، فإن من بين كثيرٍ يستحقّ الثناء والتقدير (والإعجاب بلا مبالغة) في غضون المناسبة، أن قطاعاتٍ متنوعةً في دولة قطر أوْلت هذا البعد، الإبداعي بداهةً، قسطا طيّبا، بل وكبيرا ملحوظا، فهذه الدوحة تزدحم فيها الأنشطة والفعاليات الثقافية والفنية المتنوّعة، يوميا، منذ أسابيع، وستستمرّ إلى ما بعد صافرة المباراة النهائية في المونديال، ومنها ما يتعلق بدولة قطر وفنونها، ومنها ما هو عربيٌّ، وما هو قادمٌ من دول عديدة، أوروبية وأفريقية وأميركية. وبذلك، لا تكون أعلامُ دول العالم التي ترفرف في شوارع الدوحة، ترحيبا بالجميع في أرض الدولة، بمناسبة المونديال، وحدَها التي تدلّ على قدوم العالم كله إلى أول بلد عربيٍّ مسلم يُحرز استضافة هذه المناسبة العتيدة، بل ثمّة أيضا الموسيقاتُ واللوحاتُ التشكيليةُ والأغنياتُ والفلكلورياتُ ومختلف التعبيرات الدالّة على إبداعات دولٍ عديدة، منها دولٌ لا تشارك منتخباتها في مباريات التنافس على الكأس، ومن كثيرٍ جميلٍ من هذا كله، مثلا وحسب، "معرض غزل العروق .. حياكة تاريخ فلسطين"، الذي يستمرّ إلى نهاية يناير/ كانون الثاني المقبل. وهذا برنامج "احتفالات كتارا المصاحبة لكأس العالم 2022" يؤكّد المعادلة التي تجمع المحلي بالعربي بالأجنبي، وذلك في توازي فعالياته القطرية المحلية، التقليدية الفلكلورية والعروض الموسيقية المنوّعة، مع حفلاتٍ وعروضٍ عربيةٍ وأجنبيةٍ تُبهج مختلف الأذواق والميول والأمزجة.
ولا يستقيم التأشير، الذي تفعله سطور هذه العجالة، إلى التعدّد والتنوّع الغزيريْن في الأنشطة الفنية والثقافية التي تعصى على العدّ، من دون الإتيان على الحدث البهيج في الدوحة، عندما التقت الموسيقى الكلاسيكية مع الثقافة المحلية القَطرية في السيمفونية العالمية "وردة الصحراء" التي ألّفها ووزّعها الموسيقار السوري مالك جندلي (عُيّن أخيرا موسيقارا فخريا في متاحف قطر)، واستمع إليها جمهورٌ واسع في متحف قطر الوطني، وقد أدّتها أوركسترا قطر الفلهارمونية. وابتهج السامعون الحضورُ بالإتقان، الفريد حقّا، في تناوب الحركات الموسيقية، وفي الجمع بين الموسيقى والرقصات الشعبية التقليدية. وإذ جاءت هذه الأمسية، العالية الرقيّ، ضمن فعاليات المبادرة الثقافية الوطنية "قطر تبدع"، فإن من المهم التذكير بأن هذه المبادرة التي تُواكب "كأس العالم قطر 2022" حافلةٌ بما ليس في الوسع الإحاطة هنا بمختلف عروضها وأنشطتها ومهرجاناتها وأمسياتها وحفلاتها، فنحن أمام عالمٍ من الفنون والثقافة، وأمام "حركةٍ ثقافيةٍ وطنيةٍ مزدهرة، تستقطب الجماهير المحلية والدولية"، على ما وصفتها رئيسة مجلس أمناء متاحف قطر، الشيخة الميّاسة بنت حمد آل ثاني. ربما يكفي هنا التنويه بأن 15 صالة فنية تستضيف أكثر من 80 عملا فنيا، وبأن تنظيم مختلف هذه الأنشطة يجري بالتعاون مع 27 دولة.
يبعثُ على الاستهجان، بل والاستنكار ربما، أن تنشغل وسائل إعلامٍ أوروبيةٌ بما تصطنعه من مزاعم عن مصادرة دولة قطر حرّياتٍ لمجموعاتٍ لها ميولها الخاصة، وتتجاهل كل هذا الحضور لإبداعات شعوبٍ عديدة، موسيقية وتشكيلية وغنائية، تنطق كلها بالجمال الذي يحتفل بالإنسان عقلا ووجدانا وإحساسا. .. العالم المدعوّ إلى أن يبتهج بمنافسات أقدام اللاعبين في تسجيل الأهداف مدعوٌّ، في الوقت نفسه، إلى أن يتعرّف على البلد العربي الذي يستضيف هذه البهجة، ليس بالمنظور السياحي المحض، بل بالمنظور الثقافي الأوسع. ولا تزيّد أيضا في القول إن المليون ونصف المليون القادمين إلى معايشة الفرح بدحرجة المستطيلة في الملاعب الخضراء البديعة في دولة قطر مدعوون إلى استكشاف مواطن جمالٍ غير قليلة، حاضرةٍ في إبداعات شعوبٍ عديدةٍ موزّعةٍ في أركان الأرض، توفرها متاحف قطر والحي الثقافي "كتارا" وقطاعات أخرى في الدولة، من أجل أن يعرف العالمُ نفسَه أكثر وأكثر ... وهذه مناسبةٌ فريدةٌ ونادرةٌ لا شك.