تونس وسؤال ما بعد الانقلاب
ليست رسالة المقال بحث أزمة تونس العميقة، بعد إجراءات الرئيس قيس سعيّد التي عطل فيها الدستور والمؤسسة التشريعية، وهذه عادةً مقدماتٌ لتشكّل استبدادي، ليس في نموذج التجربة المصرية وحسب، بل في سياق أحداث العالم الجنوبي الذي تبدأ عودته إلى الديكتاتورية بنقض التداول السياسي، بعد أن يُحلّ البرلمان الذي صوّت الشعب له في أجواء حرية حقيقية، هذه الحرية اليوم لم تعد قائمة.
وقد ينجح التدافع السياسي بين المناوئين لحركة النهضة في مستوياتٍ أقل، أو الذين يخشون من قوى اليسار الأخرى، وهي قوةٌ لا يُستهان بها في الاتحاد التونسي العام للشغل، فرض معادلةٍ تسمح لاستئناف ديمقراطي نسبي، قد تُحدثها قاعدة توافق محدّد بين الرئيس واتحاد الشغل وترويكا النفوذ الجديدة، تحجّم حضور النهضة وتفتح لها باب المشاركة بمستويات أقل، فيما لو رفضت "النهضة" قاعدة اللعبة، وتدفع إلى المصير المصري.
لا نستطيع الجزم بهذا التصوّر، وقيادة "النهضة" التي اشتهرت بمواقفها الحكيمة، على الرغم من الانحياز الشرس ضدها، ساهمت بالضرورة في إفشال خطط دفع تونس إلى السقوط، لكن إشكالات "النهضة" ذات عمق آخر، يشمل فترة الانتقال القصيرة، من الفكر الحزبي الضيق إلى العمل الوطني العام. ومع أهمية تقييم خطوة الشيخ راشد الغنوشي في الإصرار على رئاسة البرلمان الذي كان مبكراً على ميدان التدافع السياسي الشرس في تونس، ولم يكن هناك اضطرار لهذا الملف الذي فجرته القوى السياسية في وجه الشيخ راشد، واستُخدم لتبرير الاحتقان الواسع.
الديمقراطية تحتاج بالضرورة مراحل متدرّجة، من أهمها تشكّل المجتمع المدني التضامني القوي، وهو مجتمعٌ لن يكتمل من دون أرضيةٍ جامعة له
هذا المسار، إضافةً إلى النقد الديمقراطي من تيار الإصلاح النهضوي للشيخ، ليس مبرّراً ليوضع الرجل في ذروة المسؤولية وتشوّه صورته، وخصوصا من خلال كامل سيرته الوطنية، وبالذات في رحلة تونس الصعبة، وتثبيت السلم الأهلي، وهو تحاملٌ واسعٌ شمل المنصف المرزوقي في حديثه لقناة الجزيرة، والذي حمّل أيضاً الشيخ راشد المسؤولية لقرار تحالفه مع الرئيس الراحل الباجي السبسي. في حين خارطة التصويت المؤيدة للمرزوقي، ثم التوازن القومي الذي فرضه الباجي السبسي في مواجهة التدخل الخليجي، يُقرأ اليوم بأنه كان أساساً وطنياً لتحييد تونس عن رياح الخليج، وكان من الممكن، في ظل تراجع شعبية "النهضة" اليوم، أن يُحدّد الشعب كتلتها النيابية، كما أن أزمة ازدواجية التداخل بين السلطات التي يُحتجّ بها كانت مشروعاً دستورياً لما بعد الثورة، لا "النهضة" وحدها، وتصحيحه يُفترض أن يكون مسؤولية المؤسسة التشريعية. وهذا الحديث لا يُزكّي "النهضة" من أخطائها، ولكن القضية في اتخاذ الصراع معها حجّة لنقض التجربة التونسية الوحيدة الصامدة.
أما الأسئلة الكبرى فهي تشمل بلدان الوطن العربي، وقد تختلف في تفصيلاتٍ وتتفق في أساسيات، وأين يُحدِّد هذا الواقع مستقبل العمل السياسي والمشروع التنفيذي لإنقاذ العرب، من حالة الفشل العام بغطاء ديكتاتوري، أو فشل سياسي تم تعطيله تقنياً، ليصبح الشعبُ على عجزٍ كامل يبدأ فيه بلعن الديمقراطية. هذه الديمقراطية التي لا يوجد شك في أنها مخرجٌ من إثم الاستبداد بشقيه، القمعي ضد الإنسان وحريته، ومنع تمكين المركز الغربي من الهيمنة على مُقدّرات الوطن العربي، والتحكّم في مساحة استقلاله، تحتاج بالضرورة مراحل متدرّجة، من أهمها تشكّل المجتمع المدني التضامني القوي، وهو مجتمعٌ لن يكتمل من دون أرضيةٍ جامعة له، تحتاج إلى حدٍ أدنى من الاستقرار السياسي والمعيشي. وهو ما يعني أن أي قوى تكافح لأجل تغيير واقع قطرها القومي، وبالذات من الحالة الإسلامية، تحتاج أن تحدّد خريطة التأسيس الثقافي أولاً مع أطياف وطنها وأولويات الدولة، وثانياً ما هو الممكن السياسي لها لمنع تغوّل الاستبداد. ويعترض بعضهم على هذا الطرح باعتباره تراجعا مرفوضا، وقد حضّ مغرّدون عرب من التيار الديني التحشيدي، في أول ساعات الانقلاب، كوادر "النهضة" بالعمل على مواجهة الجيش ودباباته في الشوارع، بناء على التجربة التركية، ولكن هذه التجربة مختلفة تماماً. وهذه الأصوات نفسها، بعد أن مضت الساعات الأولى، عادت تلومهم لماذا لم يُشكّل الشيخ راشد قوة عسكرية موالية داخل المخابرات والجيش التونسي، تواجه هذا الانقلاب عسكرياً، كما فعل أردوغان بزعمهم، هل هذا كان هو الحل، وهل كان متاحاً في حالة تونس؟ هل مثل هذه الوصفات تمثل بالفعل حالة نضج في التفكير الإسلامي، أم بروباغندا طائشة لم تحم وطناً ولا حرية، ولم تحفظ الدماء؟
المصالح تبنى بين الدول، وليس بين الدول والتيار، قد يكون هناك مشتركات فكرية، ومصالح ثقافية ووحدة موقف في الشرق المسلم
السؤال الكبير هنا: كيف تتعامل حركة النهضة والقوى الوطنية الديمقراطية مع الحدث، سواءً اكتمل في انقلابه أو عُطل بعض تطرفه؟ وهل ذلك يسمح بأن تجري جولة انتخابات حرّة؟ فالمهمة اليوم هو الوصول إلى مرحلةٍ لتجديد للمؤسسات عبر صندوق الشعب لا تعسّف الرئيس. ولكن المأزق الكبير تونسياً وعربياً هو غياب حلف الفضول القُطري أو القومي للشعوب العربية في سبيل الوصول إلى استقرار إصلاحي سياسي، تتربّص به قوى الثورة المضادّة، ولكن أيضاً هناك حسابات أخرى تخدم هشاشة الوضع، فالعلاقة الاستقطابية مع تركيا يجب ألا تُستدعى، ويجب تثبيت تعامل الدولة العربية مع الدولة التركية، لا التيارات ولا فكرة الولاء للعثمانية الجديدة، فهذا النوع من الاستقطاب ليس في صالح الشعوب العربية ولا تركيا. المصالح تبنى بين الدول، وليس بين الدول والتيار، قد يكون هناك مشتركات فكرية، ومصالح ثقافية ووحدة موقف في الشرق المسلم، وقد يكون هناك اتفاقات خاصة بين الدولة العربية وتركيا، يقيم نجاحها بقدر تحقيقها السلم الأهلي والنجاة من التدخلات الأخطر، لكن ليس عبر تبعية التيار الديني لتركيا.
ومرجعية المصالح القومية واضحة للغاية في السياسة التركية أخيرا مع مصر والسعودية. ولذلك يجب أن تؤمن العلاقات الوطنية، بعيداً عن الاستقطابات الموسمية، المهمة الضرورية اليوم لبلدان الوطن العربي، هي كيف يؤمن العبور لدولة مستقلة مستقرة بالسلم الأهلي، تخلق فكرها المدني المتحد، وتطور تقدّمها لدولة الحقوق والحرية والقيم الأخلاقية.