تونس ودستورها الجديد

14 يونيو 2022
+ الخط -

انطلقت جلسات "الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة"، والمنوطة بها صياغة دستور جديد للبلاد التونسية يجري استفتاء الشعب عليه يوم 25 من الشهر المقبل (يوليو/ تموز). وانعقد الحوار بمن حضر، بعد اعتذار شخصيات ومنظمات عن المشاركة، والهدف هو الانتهاء من صياغة العقد الاجتماعي الجديد في غضون أيام معدودات وفق المرسوم الصادر عن رئاسة الجمهورية، حيث يحدد الأجل الأخير لتقديم التقرير النهائي إلى رئيس الجمهورية يوم 20 يونيو/ حزيران الحالي.
عرفت تونس في تاريخها السياسي الحديث ثلاث تجارب دستورية: الأولى، صياغة ما عُرف تاريخيا بدستور عهد الأمان بشكله النهائي سنة 1861، والذي لم يلتزم به نظام البايات قبل الاحتلال الفرنسي. وبعد الاستقلال، عرفت تونس دستور 1959، وكان ثمرة أعمال المجلس التأسيسي المنتخب، واستمرت أشغاله من 1956 إلى منتصف 1959 حيث صدر دستور الجمهورية الأول. على الرغم من أن هذا الدستور جاء مكرّسا الحكم الرئاسي المطلق، إلا أنه، في النهاية، احترم فكرة التأسيس، حيث جاء إثر نقاشاتٍ ومداولاتٍ استمرّت سنوات ثلاث. وخضع دستور 1959 لتنقيحات متعدّدة، آخرها بمقتضى القانون الدستوري عدد 51 لسنة 2002، المؤرّخ في أول يونيو/ حزيران 2002 الذي أدخل مراجعة شاملة لدستور الجمهورية التونسية لأغلب فصوله، وهي مراجعات جاءت، في مجملها، لتكريس الصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية وضمان استمرار حكم الفرد.

الدستور هو البناء الهندسي للنظام السياسي، أو هو العقد الاجتماعي الذي يعبر عن التوافق العام، والمحدّد النهائي لفلسفة الحقوق والحريات العامة

بعد ثورة 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني 2011)، توافقت القوى السياسية والاجتماعية المختلفة على إجراء انتخاباتٍ لتشكيل مجلس تأسيسي جديد، استمرت أعماله من نهاية 2011، وانتهت بصياغة دستور جديد صدر في 27 يناير/ كانون الثاني 2014. وفي التجربتين لكتابة الدستور، كان نتاجا لمجالس تأسيسية منتخبة، ولأعمال استمرّت سنوات لصياغة دستور الدولة التونسية. غير أن التجربة الحالية لكتابة الدستور غير مسبوقة، فالمكلفون بصياغة مواد الدستور هم أعضاء في هيئة استشارية جرى تعيينهم بقرار رسمي، وتم الاقتصار على مشاركين من الموالين للرئاسة، من دون أن يكون الدستور موضوعا لنقاش وطني واسع وحر، للتعبير عن كل الآراء والتوجهات. والأهم أن صياغة الدستور ستجري في أيام قليلة، وفق ما قرّره المرسوم الذي نظّم عمل الهيئة الاستشارية، وهو ما يثير أسئلة وإشكالات كثيرة بشأن مدى استيعابه التوجهات المختلفة في البلاد، وحرصه على أن يكون بالفعل القانون الأسمى الذي ينظّم الهيكل العام للدولة.
الدستور هو البناء الهندسي للنظام السياسي، أو هو العقد الاجتماعي الذي يعبر عن التوافق العام، والمحدّد النهائي لفلسفة الحقوق والحريات العامة، وهو القانون الأعلى، وقمّة البناء القانوني في الدولة، فهو أسمى القواعد الآمرة، والذي تلزم أحكامه جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وفي ظل حالة التكتم التام الذي تزاول في ظله الهيئة الاستشارية أعمالها، لا أحد يدري ما الذي يمكن أن يتضمّنه الدستور الجديد ولا طبيعة توجهاته. وإذا استثنينا تصريح الرئيس المنسق للهيئة الاستشارية الذي قال فيه إنه سيتم التخلي عن الفصل المتعلق بفكرة أن الإسلام هو دين الدولة (فصل كلاسيكي متوارث من دستور 1959 وأقرّه دستور 2014)، فإن باقي التفاصيل تظل طي الكتمان، رغم أن المفروض أن يكون الدستور وفصوله موضوعا للحوار في الفضاء العمومي، بالنظر إلى أهميته وعلاقته بطبيعة المرحلة المقبلة التي يسعى رئيس الجمهورية الحالي للتأسيس لها.

هيئة الرئيس تمضي في إنجاز ما كلفها به. وفي المقابل، تبدي المعارضة السياسية حالة من اللامبالاة إزاء العملية بأسرها

تتمثل الأخطار التي تحيط بعملية صياغة أي دستور أساسا في سيطرة اتجاه سياسي أو طرف إيديولوجي واحد على عملية صياغة الدستور، واستخدام مواده سلاحا في حلبة الصراع السياسي لإقصاء طرفٍ لحساب أطراف أخرى (ما نتلمسه من خلال تصريحاتٍ للرئيس المنسق للهيئة الاستشارية)، أو التسرّع والانتهاء من وضع الدستور في سرعةٍ لا تتلاءم مع طبيعة العمل الدستوري التي تتطلب وقتا وجهدا وحوارا مستفيضا وتوافقات بشأن القيم المؤسّسية الواردة فيه.
ومن الواضح أن هيئة الرئيس تمضي في إنجاز ما كلفها به. وفي المقابل، تبدي المعارضة السياسية حالة من اللامبالاة إزاء العملية بأسرها، وربما تمضي نحو مقاطعة عملية الاستفتاء برمتها، باعتبارها تشكّك في شرعية السلطة الحالية، ولا ترى أي جدوى في التعامل معها إلا بوصفها أمرا واقعا. وفي النهاية، يظل الصراع السياسي محتدما في تونس على أصعدة مختلفة، والأوضاع مرشّحة لمزيد الاحتقان، إذا لم يجر الاتجاه نحو مبادراتٍ وطنية للحل، أصبحت لازمة في اللحظة الراهنة أكثر من أي وقت مضى، وقبل أن تتعقد الأمور بما لا تحتمله البلاد.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.