تونس من الحاجة إلى الديمقراطية إلى مطلب الخضوع

24 ابريل 2023
+ الخط -

يستخلص بعضهم متسرّعا دروس التجربة التونسية، ويعيدون أخطاءً ارتكبها عديدون منا، حين ظننا أن تجربة الانتقال الديمقراطي تترسّخ لاعتباراتٍ عديدة، منها عراقة النخب والإرث الدستوري وصلابة المجتمع المدني الذي خاض، مع فئات عديدة، نضالا ديمقراطيا في عقود طويلة. كان يحدونا أملٌ أن تظلّ تونس الشمعة الوحيدة في الوطن العربي التي لم تنطفئ وهي ترى تجارب الانتقال الديمقراطي العربية تسقط واحدة تلو أخرى. كان كل شيء، في السنوات الأولى من عمر التجربة التونسية، يوحي أن الطريق، رغم صعوباته، معبّد للديمقراطية، فالديمقراطيين قادرون على تصويب أخطائهم، والديمقراطية تعدّل ذاتها، وهي التي أصابها تقصير من حكموا أو عارضوا معا، فلها أدوات تعديل عديدة: الانتخابات، بناء المؤسّسات، رقابة المجتمع المدني، القضاء ... إلخ. ومع ذلك، سفّه الانقلاب كل أحلامنا وتوقّعاتنا، ومضى سريعا يفكّك كل ذلك البناء وسط ذهول بعضهم وعجز بعض آخر أو تواطئه. ويوحي هذا الاستسلام أن هناك طلبا اجتماعيا متناميا على الخضوع.
مرّت انتخابات 2019 جرس إنذار لم نفهم مغزاه، أو ربما قلّلنا من توقعات ما يمكن أن يذهب إليه الرئيس قيس سعيّد، الذي سانده طيف واسع ممن حكموا أو عارضوا، وهم لا يعلمون أنهم سيكونون ضحاياه، وأن تلك الأصوات، التي منحوه إياها ورجّحت كفته في مواجهة منافسه نبيل القروي، ستقودهم الى مصير محتوم.

لم يدافع الديمقراطيون عن برلمانهم المنتخب، وتُرك وحيدا مهجورا أكثر من سنة ونصف السنة

يعود بعضُهم إلى استخلاص الدروس نفسها، وبتلك الخفّة السياسية نفسها، وحتى الأخلاقية، مع اعتقال رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، الذي شغل رئيس البرلمان، قبل أن يُحلّ. ذهب الرجل الثمانيني إلى البرلمان ليلة الانقلاب مدافعا عن الشرعية، ليجد باب البرلمان وقد أوصدته الدبابة. مكث بعض الوقت ثم عاد. لا شك أن مشاعر الخذلان والخيبة وتجرّع المرارة القاسية قد بدّدا ثقته كثيرا. لم يدافع الديمقراطيون عن برلمانهم المنتخب، وتُرك وحيدا مهجورا أكثر من سنة ونصف السنة. وأخذت التجربة منعرَجا خطيرا، نعلم تماما محطّاته الكبرى التي رسّخت الانقلاب وطوت صفحة التجربة الديمقراطية. ما زال كتاب هذه التجربة مفتوحا على كل الفقرات الممكنة، بما فيها الأكثر سوداوية، ولكن التجربة نفسها ما زالت، أيضا، مفتوحةً على فصولٍ تُستأنف فيها الديمقراطية مجدّدا. قد يخطو التاريخ متنكّرا مخبّئا وجهه وراء أحجبةٍ عديدة.
يسارع هؤلاء، ومنهم مثقفون كبار وإعلاميون، إلى القول بانتهاء حركة النهضة، بل الإسلام السياسي برمته في تونس. يشتغلون حفّاري قبور، مهمتهم الوحيدة النعي، مع إبداء مشاعر الشماتة التي لا تليق أصلا بالبشر. تطفح شبكات وسائل الإعلام بعبارات التشفّي وطلب مزيد من العقاب. ولا يمكن أن تمر بعض حفلات التشفّي التي نظّمها بعضهم في الشارع من دون أن تثير لدينا القلق الأخلاقي والمعرفي: هل هذه البلاد جديرةٌ بالديمقراطية؟ هل مرّت الديمقراطية من هنا أصلا؟ أي تنشئةٍ تلقّاها هؤلاء البشر، ومن دلهم على جبال الحقد والكراهية هذه؟
علينا، ونحن نقرأ هذه الفصول الأولى من تجربةٍ طويت، ألا نتسرّع في تصوّر الاحتمالات الممكنة التي تعتقد أن الاستبداد الشعبوي قد طاب له المقام، وأنه أناخ بقافلته ليمكث بيننا طويلا، رغم كل الاستسلام الظاهر للعيان. الطريق معبّد للذهاب بعيدا، مع ذلك تظلّ احتمالات إفساد هذا التوق واردة جدّا في ظل تفاقم الأعباء الاقتصادية والاجتماعية التي عجز نظام سعيّد عن حلها.

سيكون الرّخاء هذه المرّة مرتهنا بقدرة الاستبداد على تحقيقه، بعد أن عجزت الديمقراطية في العشرية التي مرّت من عمرها القصير

خلال تاريخ المعارضة التونسية منذ الاستقلال، يتبين لنا أنها كانت نخبوبة، وأن مطلب الديمقراطية ظلّ محصورا داخل أقليات نشطة، ولم تكن ثقافة تحتية تترسّخ. وها إننا نتأكّد من هذا حين جرى الإجهاز عليها. لم يدافع الشعب عنها، وعادت النخب تناضل من أجلها، لكنها كانت هذه المرّة أكثر وهنا وتشتّتا. ما حسم بعض الجولات من تاريخ المعارضة التونسية في معاركها تلك هو التبرّم الاجتماعي الذي قد يدفع إلى تغير المزاج العام، فينفضّ الناس من كانوا له سنداً وحاضنة. ثورة الخبز هي التي أضعفت نظام بورقيبة وقدّمته لاحقا لخصمه بن علي، من دون أن يدافع عنه حتى من استفادوا منه. جياع التهميش وضحايا التهريب وفساد العائلة هم الذين أجّجوا انتفاضة الحوض المنجمي سنة 2008 وثورة 2011 لاحقا، وقدموا بن علي لخصومه. 
سيرتهن مصير استعادة الديمقراطية في تونس بمثل هذه القوادح التي يمكن أن تغيّر مزاج الشارع العريض، الذي بدا غير معني بمعارك استعادة الديمقراطية. لقد نجح النظام في "تكريه" الناس بالديمقراطية وابتذالها. لذلك، لن تكون الديمقراطية عنوان الصراعات المقبلة. سيكون الرّخاء هذه المرّة مرتهنا بقدرة الاستبداد على تحقيقه، بعد أن عجزت الديمقراطية في العشرية التي مرّت من عمرها القصير. رغد العيش ومحبوبته كما كان يردّد الزعيم الحبيب بورقيبة يبدوان صعبي المنال. يتبرّأ التونسيون ممن حكموهم، ولو بعد حين.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.