تونس مستهدفة بالتطبيع فهل تقع في الفخّ؟

12 نوفمبر 2022

رئيس إسرائيل هيرتسوغ يحادث نجلاء بودن في قمّة المناخ في شرم الشيخ (7/11/2022/فرانس برس)

+ الخط -

كانت مناهضة التطبيع مع إسرائيل ورقة سياسية ورمزية هامة أسهمت في الرفع من شعبية الرئيس قيس سعيّد في أثناء حملته الانتخابية وبعدها، لكن الآية انقلبت، وتحوّلت إلى مصدر تشكيك وتندّر أحيانا، ليس داخل تونس فقط، وإنما على الصعيد العربي أيضا. هذا الأمر يجب أن يدركه الرئيس التونسي ويأخذه بعين الاعتبار في هذه المرحلة الصعبة التي تمرّ بها ولايته الأولى. لقد أحيا في خطابه السياسي صورة الزعيم جمال عبد الناصر وباقي الرؤساء القوميين العرب الذين اعتمدوا على الحق الفلسطيني أساسا لترسيخ شعبيتهم وشرعيتهم السياسية. ورغم أن عموم التونسيين لا يحبّذون الدخول في مواجهةٍ مع حكام تل أبيب، ولم يهيئهم لذلك الرئيس بورقيبة، إلا أنهم اعتبروا خطاب سعيّد دليلاً آخر على حسن نياته وتعلقه بمبادئ العروبة، ورغبته في عدم السقوط في بؤر التكتيك السياسي، ما زاد في درجة التعاطف مع هذا الرجل الذي يريد الإصلاح.

تقلّصت هذه الصورة الجميلة بعد أن توالت المطبّات، وارتبكت حسابات الرجل، وتعارضت رهاناته السياسية، وتضاربت تقديراته وتوقعاته. لعله أدرك، وهو في موقع السلطة، أن النيات الحسنة ليست وحدها التي تحدّد سلوك الحاكم. هناك عوامل أخرى كان يستخفّ بها، وربما بدأ يستجيب لها تدريجياً، تلك التي يسمّيها السياسيون "الإكراهات"، ويقصدون بها الضغوط "القاهرة" التي تحدّ من اختياراتهم وتجعلهم، في لحظةٍ ما، يخضعون لها بحجة تجنّب الأسوأ.

رئيسة الحكومة التونسية، نجلاء بودن، تنقصها الخبرة السياسية التي يمكن أن تنقذها من خبث المسؤولين الإسرائيليين، فهي بحكم أنها تمثّل تونس، كان عليها أن تكون حذرة، وتتجنّب الوقوع في الشبهة، لأن بعض الشبهات قاتلة في السياسة، مثل ضحكتها، ولو كانت عفوية، مع الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هيرتسوغ، في أثناء التقاط الصورة التذكارية لرؤساء الوفود في قمّة المناخ في شرم الشيخ، فإن الإسرائيليين يعتبرونها بداية ابتلاع الطعم. هم حريصون دائما على استغلال الظروف والمناسبات لتحقيق أهدافٍ مهما كانت رمزيتها وحجمها. جزء كبير من الحرب الدبلوماسية قائم على استثمار الرموز عبر الكلمة والحركة والصورة. لم يلتفت الرئيس الإسرائيلي إلى الخلف بعفوية، كان يبحث عن المناسبة منذ انطلاق المؤتمر حتى توفرت اللحظة. تونس هدف حيوي منذ زمن طويل.

لا تكفي تلك الصورة لاتهام تونس بالتطبيع، لكن يمكن اعتبار ما حصل خطوةً أخرى نحو الهدف، فمجرّد الابتسامة والحديث مع العدو بضع ثوان مقدّمة لإسقاط المحرّمات وفتح المجال لمواقف أخرى أكثر أهمية، فتونس في أزمة اقتصادية وسياسية شديدة التعقيد، وهو مناخٌ مناسب للضغط على قيادتها أو إغرائها بعروضٍ تساعدها على تجاوز مأزقها الداخلي مقابل التخلّي عن رفض التطبيع، وعن موقف التمييز بين اليهودية والصهيونية. وربما يطرح عليها القيام بوساطة بين تل أبيب والفلسطينيين، وعند قبولها، تتدفق الأموال، مباشرة أو عبر قنوات وسيطة.

يُستبعد أن يقبل قيس سعيّد الوصول إلى هذه النقطة الخطرة. لن تسمح له الجزائر إن فكّر في ذلك، خصوصاً أن العلاقات الشخصية بين رئيسي البلدين أكثر من جيدة. لكن ذلك لا يلغي هامش المناورة الذي يمكن أن يستند إليه سعيّد في سياسته الخارجية عند معالجته بعض الملفات المعقدة.

ما يمكن ملاحظته في هذا السياق أن الدبلوماسية التونسية تعيش منذ فترة حالة من "الضبابية" وعدم الوضوح، كأنها في مرحلة مخاض معقّد. للرئيس رغبة في تغيير بعض قواعد هذه الدبلوماسية وفي التحالفات، لكن العوائق عديدة، ومن الصعب تجاوزها، لهذا، الغموض سيّد الموقف، فبقاء أكثر من ثلاثين سفارة بدون سفير أو قنصل دليل على أن الرئيس يبحث عن موالين يثق بهم خلال المرحلة المقبلة. كما أنه مطالبٌ بتوضيح سياسته تجاه قضايا أساسية، منها العلاقة مع إسرائيل. هو يرى فيها عدوّاً لم يعترف بحق الشعب الفلسطيني في إقامته دولته. لكن هذا وحده لم يعد كافياً بقدرة الرئيس على الصمود طويلاً أمام محاولات الترويض التي تمارسها أطرافٌ عديدةٌ تتحرّك من وراء حجاب قد تدفع به نحو تعديل الموقف تجاه إسرائيل التي يزداد دورها وحجمها وتأثيرها داخل العالم العربي.

التطبيع مسار طويل وتدرّجي، يتحقق حتى لو كان النظام رافضاً له ومؤمنا بالحقوق الفلسطينية الثابتة، فالإسرائيلي قد يتسرّب إليك من منافذ متعدّدة إذا كنت جزءاً من استراتيجيته. وتونس ورقة مغرية، لهذا لن تترك لحالها. ستستمر الضغوط من أجل إدماجها في هذا المسار، وتصريحات السفير الأميركي الجديد بتونس دليل على ذلك. المهم أن التونسيين لا يزالون رافضين أن تصبح إسرائيل دولة صديقة. وهذا عاملٌ مهم في تأجيل الانخراط المباشر في التطبيع. لفلسطين موقع خاص في قلوب التونسيين، وعلى الرئيس ألا ينسى هذا.