تولستوي أم دوستويفسكي؟
إذا سألتَ روائياً بمن تأثّر أو إلى أية سلالة أدبية ينتمي، من النادر ألا تسمعه يقول اسم دوستويفسكي. بعضهم سيتحدّث عن تولستوي ولو بدرجة أقل، ربما لأن الأخير أكثر تفاؤلاً بالإنسان عندما يكون متناغماً مع الطبيعة، من مواطنه المُغرق في تشاؤمه من تناقضات النفس البشرية ومقدرتها على ارتكاب الشرور. وإذا ما كان دور الكاتب يقوم على كشف الجوانب المستترة في الواقع، فقد أبدع العملاقان الروسيان، كلّ في مضماره، في تظهير تعقيدات الأعماق الإنسانية كما فعل دوستويفسكي، أو في رسم التوحد الحميم للإنسان مع الطبيعة، كما تشير إليه حياة تولستوي وأعماله.
"اسأل امرأة أو رجلاً أيفضّل تولستوي أم دوستويفسكي، وسوف تعرف أسرار قلبه"! هذا ما كتبه الفيلسوف المسيحي الروسي نيكولاس بيرديايف عن عملاقي الرواية الروسية اللذيْن جسّدا مفهومين مختلفين جذرياً للوجود. ففي السجن في سيبيريا، أدرك دوستويفسكي الارتباط العميق للروس، بمن في ذلك المجرمون الصغار، بالتقاليد المسيحية، وبداية من "الفقراء" وصولاً إلى "الإخوة كارامازوف" استولى السؤال التالي على أعماله: "كيف يمكِن لإله الحبّ أن يخلق عالماً يوجد فيه الشر؟". إن أشقى سبع سنوات في حياته كانت أكثرها خصباً، وقد توزّعت بين نوبات الصرع وإدمان القمار وانعدام الأمان المالي والصراعات السياسية ووفاة طفله... في المقابل، كانت لتولستوي، وهو من ملّاك الأراضي وذوي الأصول الأرستقراطية، حياة مادية سهلة، وإن لم تخلُ من أزمات فكرية ووجودية كبرى حوّلته في النهاية مصلحاً اجتماعياً، داعية سلامٍ ومُفكّراً أخلاقياً، بالإضافة طبعاً إلى إنجازه تحفاً أدبية خالدة.
في كتابه "تولستوي أو دوستويفسكي" يرى الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي - الأميركي جورج شتاينر (1929 - 2020) أن الرواية تشير إلى مفهومين مختلفين للفن الأدبي، لدى الكاتبين الروسيّين، فقد استوحى تولستوي أسلوبه ونظرته إلى العالم من الشاعر الإغريقي هوميروس، بينما استلهم دوستويفسكي الكتّاب المسرحيين، ولا سيما شكسبير وشيلر. تولستوي روائي ملحمي، بينما دوستويفسكي روائي تراجيدي أو مأساوي. يقول شتاينر: "من المستحيل أن نلخّص الصلات بين رؤيتي هوميروس وتولستوي، وربما كانت رواية الحرب والسلم هي أفضل مثال على القرابة التي تربط بينهما: المفهوم الملحمي للوقت، تثمين البطولة القتالية، الاحتفال المستمر بقوّة الحياة وجمال الطبيعة، والاقتناع العميق بأنّ الإنسان هو مقياس الحياة ومحورها".
وبمثل عمق علاقة تولستوي بالملحمة واتّساعها، كانت علاقة دوستويفسكي بالمسرح، ففي حين يعتبر تولستوي مسرحيات شكسبير نسيجاً من السخافات تهين العقل والحس السليم، و"ليس لها أي شيء مشترك على الإطلاق مع الفن والشعر" وأن مؤامراته مفتعلة وشخصياته تتحدّث "لغة غير طبيعية لن يتحدّث بها أي رجل حقيقي في أي مكان"، يرى دوستويفسكي أن شكسبير هو العبقري بامتياز، وقد كتب عنه في دفاتر ملاحظات روايته "الشياطين": "شكسبير نبيٌّ أرسله الله ليكشف لنا سر الإنسان والنفس البشرية". هذا ويبرُز تأثير المسرح في فنّ دوستويفسكي بشكل خاص في حواراتٍ ترمز إلى عبقريته، إنها الكلمة تكشف عن دفائن الشخصية في الوقت الذي تقدّم فيه حبكة الرواية. وكذا تفعل بعض المشاهد (نهاية الجزء الأول من "الأبله" حيث تلقي ناستازيا الأموال في النار، أو في "الجريمة والعقاب" عندما تتهم سونيا الصغيرة خطأ بسرقة الأموال) "بالنسبة لدوستويفسكي، كان الوضع الدرامي هو الأنسب للتعبير عن حقائق الشرط الإنساني "يكتب شتاينر.
هكذا تبرز الفجوة بين تولستوي ودوستويفسكي ونظرتيهما المتناقضتين إلى الحياة والإنسان. فبالنسبة للأول، يمكن الاحتفال بجمال الإنسان عندما يكون في وئامٍ مع الطبيعة، فيما يرى الثاني أنّ الهدف الأساسي هو الإشارة إلى ظلامه الرهيب نتيجة صراعٍ دائم بين الخير والشر.