تنويعات خميس خياطي
لا يُحيط وصفُ خميّس خياطي ناقداً سينمائياً بكلّ ما فيه. إنه، في عينٍ أوسع، باحثٌ في السينما أيضاً. وإذا استشعرْنا تزيّداً في القول إنه "منظّر" في الكتابة عنها ودرْسها، ففي الوُسع أن يُقال إنه صاحب نظرةٍ، أو منظورٍ، فيها. وإلى هذا وذاك، هو ذوّاقة، وصحفي، ورجل إعلامٍ واتصالٍ وتواصل، فقد تعدّدت الإذاعاتُ والتلفزاتُ والمجلّاتُ والصحفُ العربية والفرنسية التي عمل فيها ومعَها في أزيد من أربعة عقود. وبذلك، يحضُر مرّةً في إهاب الباحث الدارس، المنقّب الممنهَج. وفي موضع آخر، تراه متخفّفاً من هذا اللباس، فيكون صاحب الصنعة الصحفية المحضَة، السريعة من دون تسرّع، الطلْقة بلا ارتجال، البسيطة من دون خفّة، المتباسِطة من دون "خوشبوشية". وذاك كتيّبٌ له، في نحو 80 صفحة من القطع الصغير، كتبَه في 1978، (إبّان مُقامه في باريس من نهاية الستينيّات إلى مطالع التسعينيّات)، ونُشر في القاهرة في 1982، سمّاه "النقد السينمائي"، يوازي فيه بين بعض الأكاديميّة وشيءٍ من العدّة المنهجية وكثيرٍ من الألفة مع قارئه الذي يتزوّد فيه بما يلزَم أن يعرفَه عن السينما "فنّاً جماعياً" وصناعةً ومنتوجاً اقتصادياً وأداةً معرفيةً (ليست تثقيفيّةً أو ثقافيّة بالضرورة)، وعن مُشاهد الأفلام وما يريد، وعن الناقد كيف يصير ناقداً (نزيهاً)، فعيّن له 11 مؤشّراً (أو شرطاً؟)، فجاء الكتيّبُ على ذكاءٍ واضح، سيّما وأن النقولات التي تضمّنها، على قلّتها، من مُنتجين ونقّادٍ ومخرجين وأهل إعلام، بالغة الجاذبيّة.
ومن أنفع ما صادفتُ في هذا النصّ الذي ستحبُّه، لو طالعتَه، أن صاحبَه يُخبرك فيه بأنه ليس في العالم مدرسةٌ يتخرّج منها نقّاد السينما، فـ"مدرستُهم الوحيدة الحياة وحبّ السينما وما يمكن تسميتُه الجنون الثقافي". ويقول لك أيضاً إن الناقد السينمائي صحفيُّ قبل أن يكون ناقداً، ووسيطٌ بين ميادين حيويّة بالنسبة للعمل السينمائي، وليست هذه الوساطة عملاً سهلاً. وأميلُ إلى أن خميّس خيّاطي الذي ودّع الدنيا في بلده تونس الأربعاء الماضي عن 78 عاماً ظلّ، في مشاغله النقدية والإعلامية، في السينما والمنتوجات السمعية والبصرية، وفي أبحاثه ومتابعاته الصحفية ومحاوراته، وفي المقابلات معه، ظلّ وفيّاً، إلى حدٍّ كبير، للمنظور الرّحب الذي صاغه في كتيّبه المبكّر ذاك، وإنْ مع أخذِه بما جدّ مما تطلّبته، من لغةٍ ومعرفةٍ وأدوات تحليل، التطوّراتُ التقنيّة والتواصليّة الهائلة في العقود التي تلت كتابته نصّه، المكثّف الممتلئ، ذاك.
وإذا كانت كتابات خميس خياطي في غير صحيفةٍ ودوريةٍ عربية قد عرّفت قرّاءه بمزاجه النقدي وأسلوبه في التناول (كتب كثيراً بالفرنسية أيضا)، سيّما في أسبوعية "اليوم السابع" الباريسية (1984 – 1991)، والتي قال لصديقنا ناجح حسن ("الرأي" الأردنية، 2009) إنه مدينٌ لها كثيراً، "بأنها كانت نوعاً فريداً في العمل الصحفي"، فإن كتابَه عن سينما صلاح أبو سيف، أقلُّه كما قرأنا طبعته العربية الموجزة (صدر في القاهرة في 1995 في 130 صفحة) يقدّمه دارساً، فالكتابُ أصلاً أطروحة دكتوراة في الاجتماع في باريس (بإشراف أنور عبد الملك)، صدر بالفرنسية في 650 صفحة في 1990. وقد أخبر ناجح (في دبي) بأن اختيارَه هذا يعود إلى "كثافة" إنتاج أبو سيف السينمائي وتنوّعه، ولأن "أفلامَه تشتمل على صورةٍ موجزةٍ، لكنها مكثّفة عن الإيقاع اليومي في حياة الإنسان المصري بكل شرائحه الاجتماعية". وقد جاء على أسبابه هذه، وغيرِها، في مقدّمة كتابه الذي يحضرُ فيه صاحبَ اجتهادٍ في التحليل السوسيولوجي، المتّصل بالتاريخي، لأفلامٍ سينمائية. ويكتًب في واحدةٍ من خلاصاته إن من الممكن تسجيل التاريخ الاجتماعي لبعض أحياء القاهرة من خلال أفلام صلاح أبو سيف الذي يراه "الباحث" خيّاطي التفتَ إلى السينما في جانبها الواقعي، أي "بإبراز المشاعر الإنسانية والأحداث الاجتماعية وتفسيرها من خلال مفهومه للسينما في خدمة المجتمع". على أن "واقعيّة" أبو سيف ليست نقلاً موضوعيّاً للحقيقة. ويحاجج المؤلف نقّاداً رأوا ثبات البنية الأساسية في أفلام مخرج "الفتوّة" (أو كثيرٍ منها)، مع عدم تحقيق أيّ تغييرٍ في الهيكل العام للفيلم، نوعاً من سكون الحركة وافتقاد الديناميّة، وبالتالي، انتفاءً للواقعية، فيذهب إلى أن هذا خطأ "فهذا الثبات البنيوي يمثل إطاراً يجد فيه صلاح أبو سيف وعاءً للمقصد الاجتماعي".
أياً كان الحال... كان خميس خياطي شعلةً نشطة في "جنونها" الثقافي. تتنوّع طبقاتُ كتاباته وتآليفه (أحدُها عن السينما الفلسطينية)، لكنها تتقاطع في الولع بالجميل والعميق من السينما. رحمه الله.