تناقضات الغرب مع مصر المأزومة
تسرّبت، قبل عقود، ملامح الاستراتيجية الأميركية المتّبعة تجاه مصر، مفادها أن واشنطن ترى مصر دولة كبيرة لا يمكن السماح لها بالازدهار واليقظة، ولا يمكن تركها تفشل أو تغرق تماماً في مشكلاتها، لما في ذلك من خطر كبير على الاستقرار في الشرق الأوسط. إنها استراتيجية "سطح المياه"، أي الحفاظ على مصر دائماً على السطح، فلا تقفز إلى أعلى وتتقدّم، ولا هي تغرق داخلها.
أتذكّر هذه الاستراتيجية كلما وقعت مصر في مشكلات عويصة داخلية أو خارجية، إذ تجد دائماً من ينقذها من مصير مظلم، حتى إن كان السبب داخلياً أو بأيدي المصريين أنفسهم، فالمصريون يعانون أشد المعاناة منذ بضعة أعوام، جرّاء الغلاء الفاحش وشظف العيش وتزايد الضرائب والتحصيلات المالية المجحفة. وبالتوازي مع ارتفاع معدّلات التضخم والبطالة، كانت تتراجع بقوة الاستثمارات الداخلية والخارجية وتحويلات العاملين في الخارج وعوائد السياحة ورسوم عبور قناة السويس وغيرها من مكوّنات القطاع الخدمي، الأكثر جلباً للدخل القومي. فيما انحسر، بشكل كبير، دور الدولة الرقابي، ليس فقط على الأسعار وضبط العلاقة بين التجار والمستهلكين، بل أيضاً دورها الحامي للأمن العام والاستقرار المجتمعي.
وبعد أن باتت شرائح معتبرة من المجتمع المصري تعاني، حرفياً، لأجل تأمين الحد الأدنى من الطعام والشراب، فوجئوا بأن الحاكم الأوحد الوحيد صاحب السلطة العليا في البلد، عبد الفتاح السيسي، الذي يُفترض أنه يحمل من الناحية الرسمية لقب "الرئيس"، أي المناط إليه مهام تأمين متطلبات حياة المواطنين وإدارة شؤون الدولة، بما يحفظ مقدّراتها وينمي مواردها، ويؤمّن أرضها وحدودها، فوجئوا به يطالبهم مجدّداً بتحمّل الجوع ثمناً لما أسماها "التنمية". والأغرب أن هذا المطلب غير المنطقي كان جوهر الخطاب الذي أعلن خلاله نيته الترشّح مجدّداً لولاية رئاسية ثالثة، ستُثبته في تلك السلطة المطلقة حتى عام 2030! وليس هنا مجال تفنيد ذاك الخطاب غير المتسق في ذاته، ولا تقييم السياسات التي أودت بمصر إلى هذا المنحدر، فليس في الكلام في هذين المستويين جديد يقال، والواقع أبلغ من أي مقال.
ما يستحقّ التوقف عنده حقاً، الحماسة التي دبّت فجأة في أوصال الدول والمؤسّسات الغربية، فبعد ساعاتٍ فقط من تأكيد السيسي خوضه انتخابات الرئاسة المقبلة، بادر الغرب إلى تبنّي مواقف وخطوات أقلّ ما توصف به أنها تأخّرت أعواماً. ففي اليوم التالي مباشرة، أصدر البرلمان الأوروبي قراراً يطالب مصر بالإفراج عن معتقلين، وينتقد انتهاك حقوق الإنسان. كذلك تسارعت وتيرة التحرّكات في الكونغرس الأميركي لوقف المعونة عن مصر، رغم أن التحقيقات في قضية كيفن مكارثي مستمرّة منذ أربع سنوات. وتزامن مع ذلك كله خفض تصنيف مصر الائتماني بواسطة مؤسّسة فيتش المالية الدولية، لتعود مجدّداً إلى الفئة الثالثة، أي الدول ذات الوضع المالي شديد السوء والمهدّدة بشدة بالعجز عن سداد القروض.
وحيث اتُّخذت هذه المواقف كلها في أقلّ من 48 ساعة على إعلان السيسي الترشّح للرئاسة مجدّداً، فمن السهل توقّع أن تظهر مواقف وتحرّكات أخرى في الأسابيع الباقية على عملية التصويت في الانتخابات الرئاسية المصرية. لكن هذه الأوضاع المبرِّرة للإجراءات الغربية ضد مصر، قائمة وتتفاقم منذ أعوام، ولم ينبت الغرب ببنت شفة.
ليست المبادئ هي القضية بالنسبة إلى الغرب، فالوضع التقليدي الدائم للمواطن المصري أن حقوقه منتهكة، وموارده مهدرة وحرّياته مكبوتة. كل ما في الأمر أن الوضع غير قابل للاستمرار، وبات مهدّداً بالانفجار لو استمرّ على ما هو عليه. وسيكفي قدر ضئيل من التخفيف والتجميل ليصمت الغرب مجدّداً، وليدخل المصريون حقبة جديدة من المعاناة والاختناق، لكن بقليل من التنفيس لمنع الانفجار.