تناقضات الدولة العبرية وأوهام الديمقراطية
إسرائيل دولة ولدت من رحم التناقضات العربية والدولية، لكن وجودها اليوم رهن لتناقضات من نوع آخر، تناقضات داخلية ذات طبيعة اجتماعية وثقافية ودينية تنبع من أوهام قومية وتاريخية. فالأوهام التي تدور في المخيال القومي العبري كثيرة لا يمكن حصرها، تنبع بدءا من استعلاء قومي حصري واصطفاء ديني منبتٌّ عن أصوله الأخلاقية وقوالبه الإنسانية، مرورا بفكرة الوعد الإلهي الأبدي المتفلت من حدود الزمان، وفكرة التطابق بين قيام الدولة الصهيونية والعودة إلى أرضٍ وعدها الله لأمةٍ قد خلت بشرط التزامها بقيم الحق، قيم الإنسان العليا، وانتهاء بالوهم الجديد في كون إسرائيل مجتمعا سياسيا قادرا على البقاء والاستمرار خارج فضاء العناية والدعم الغربي.
أدركت الحركة الصهيونية، منذ البداية، أن إمكان وجودها ونموّها واستمرارها مرهون بقدرتها على إضعاف شعوب المنطقة وزرع الفرقة والخلاف والصراع البيني بينها، وقد نجحت في هذا المضمار إلى حد بعيد، مستفيدةً من التراجع الحضاري والعلمي والاجتماعي الذي وصلت إليه الشعوب العربية مع دخول القرن العشرين، ومن ارتقاء المجتمعات اليهودية في الدول الغربية في القدرات العلمية والاقتصادية والتجارية بعد قرون من التهميش والاضطهاد، وارتفاع قدرة مراكز التفكير والإنتاج والتمويل الصهيونية على التأثير في السياسات الغربية الخارجية تجاه الدول العربية. وتمكّنت، أخيرا، نتيجة الصراعات البينية بين الدول العربية، والصراعات الطائفية والقومية مع دول الجوار الإسلامي، من تحويل حكوماتٍ عربيةٍ عديدةٍ إلى حلفاء، ومن توظيف الثقل الأميركي والأوروبي في المنطقة العربية لتحقيق ذلك.
وفي اللحظة التي اعتقدت فيها الحركة الصهيونية أنها استطاعت ترويض الدول العربية واستبعاد خطر الدخول في صراعات عسكرية معها، واستشعرت قدرتها على استغلال الصراعات الداخلية في المشرق لضرب الشعوب العربية التي تحمل الهم الفلسطيني ويتعاطف أبناؤها مع الحقوق الفلسطينية المنتهكة، ظهرت الانقسامات الإسرائيلية الداخلية إلى العلن، من خلال الانقسام الواضح والكبير بين اليسار واليمين الصهيونيين في إسرائيل، في سياق الجهود التي تقوم بها حكومة نتنياهو لإخضاع السلطة القضائية الإسرائيلية لسيطرة السلطة التنفيذية التي تهيمن على السلطة التشريعية نتيجة حصولها على الأغلبية المطلقة في الكنيست.
تمثل الخلافات التي تتزايد يوما بعد يوما مع زيادة أعداد المستوطنين الصهاينة في الضفة الغربية تناقضات حقيقية وعميقة، لأنها تنبع من صراع ديني وعقدي، لا صراع سياسي. ولا بأس، في هذه العجالة، من المرور سريعا على أهم التناقضات الداخلية التي تحكُم الحراك السياسي والاجتماعي داخل أرض فلسطين المحتلة والخاضعة لأسوأ أشكال الاستعمار في تاريخ البشرية، الاستعمار الاستيطاني الذي يعمل على ضمّ الأرض واقتلاع الإنسان الذي يملكها.
تمثل الخلافات التي تتزايد مع زيادة أعداد المستوطنين الصهاينة تناقضات حقيقية وعميقة، لأنها تنبع من صراع ديني وعقدي، لا صراع سياسي
أولا: التناقض بين غايات الحركة الصهيونية وغايات الدول الغربية التي عملت على إنشائها وتمكينها لتجد نفسها اليوم تصارع بلا جدوى لحصر الهيمنة الصهيونية في المشرق العربي ومنعه من التحكم بسياساتها الداخلية. لا يخفى على من يرصُد تصريحات القيادات السياسية والدينية الغربية على امتداد قرنين أن الغاية من دعم كيان صهيوني في فلسطين يتعلق برغبة المستعمر الأوروبي في الحفاظ على الهيمنة الغربية في المنطقة العربية، والحيلولة دون عودة اللّحمة والتعاون بين أبنائها بعد تقسيمهم وتحويل الحدود السياسية بينهم إلى حواجز حقيقية يصعب عبورها، ففكرة عودة اليهود عنوة إلى فلسطين برزت، أولا، في سرديات رؤساء الكنائس الإصلاحية في بريطانيا في مطلع القرن التاسع عشر قبل أن تتلقفها القيادات اليهودية في أوروبا. واستمرّت هذه الكنائس تمارس ضغوطا كبيرة على حكوماتها لدعم الحركة الصهيونية بعد قيامها، منذ استصدار وعد بلفور في بداية القرن العشرين، وحتى ظهور جماعات الضغط اليهودي في العقود الأخيرة منه، وسعيها إلى تحصيل منح مالية سخيّة وأسلحة متطوّرة من الحكومة الأميركية. ولعل العبارة التي أطلقها الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن عندما أعلن في مداخلة قدّمها عام 1986أمام مجلس النواب، برّر فيها الاستمرار في تقديم مليارات الدولارات سنويا اعترافا بخدمات إسرائيل المهمة، قائلا: "لو لم تكن ثمّة إسرائيل لوجب أن تخترع الحكومة الأميركية مثلها". المفارقة أن النفوذ الصهيوني في دوائر صنع القرار الأميركي بلغ حدا يدفع المتابع للمشهد السياسي الأميركي إلى التساؤل حول من يوظف من، ومن يخدم من: هل توظّف أميركا إسرائيل لخدمة مصالحها الاقتصادية والجيوسياسية أم العكس؟
ثانيا: التناقض بين قيم التوحيد وممارسات الدولة التي تدعي أنها تحقق الوعد التوراتي. فالتوراة بوصفها الوعاء الذي حمل تاريخيا قيم التوحيد التي دعت إلى التساوي بين الناس بالكرامة، وإلى خضوع الجميع لقانون أخلاقي متسام فوق الرغبات الآنية والمصالح الخاصة، تتعارض كليا مع الممارسات العنصرية والعدوانية التي تقودها وتحميها سلطة الاحتلال في فلسطين ضد أبناء الأرض الصامدين رغم الخذلان. ولأن الممارسات الإسرائيلية تتعارض مع القيم اليهودية والمسيحية الأصيلة، يبذل الإعلام الصهيوني في الغرب منذ عقود قصارى الجهد لإخفاء الممارسات البشعة للكيان الصهيوني المحتل، ويعمل بدأب على إسقاط ممارسات الاحتلال على المنظمات الفلسطينية بحيث يظهر المشهد لمن يتابعه في الإعلام الأوروبي والأميركي مقلوبا، ويبدو كأن الفلسطيني هو المحتل الباغي الذي يعتدي على المجتمع الإسرائيلي المسالم الذي يتعرض للظلم من الفلسطينيين والمحيط العربي.
ثالثا: تناقض العبرية التاريخية والقوميات الصهيونية المتعدّدة التي تداعت من كل حدب وصوب لتحقيق تفوق سكاني للمستوطنين اليهود، الذي لم تتمكّن إسرائيل من تحقيقه بعد 70 سنة من الجهود الحثيثة، رغم الإغراءات المالية التي تُعطى لكل يهودي تحطّ رحاله في الأرض المغتصبة: السكن المجاني، والدعم المالي، والأرض التي تؤخذ من الفلسطينيين لتعطى للوافد اليهودي الغريب عن الأرض والمليء بالحقد، فعودة اليهود العبريين الذين شرّدهم ملوك بابل ثم روما قبل ما يزيد عن ألفي عام وهمٌ كبير، لأن معظم الهجرات اليهودية القادمة من روسيا وأوروبا منذ إعلان دولة إسرائيل تشمل قومياتٍ لا تنتمي، بأصولها العرقية، إلى العبريين الذين سكنوا فلسطين قبل الشتات. وتظهر الدراسات التاريخية أن أرض الشتات اليهودي اقتصرت على سورية وإيران واليمن، وأن كثيرين منهم اعتنقوا المسيحية والإسلام وأقاموا في المشرق. وأن الكيان الصهيوني باسم العودة وأرض الميعاد إنما يعتدي على أسر وأفراد ينتمي عديدون منهم أصالة إلى الأرض التي بارك الله حولها، في حين تُمنح الأرض لأسر وأفراد ينتمون إلى قومياتٍ أوروبيةٍ لا تربطهم بالأرض أي صلة تاريخية.
تاريخ الاستعمار يعلمنا أن العدوان على حقوق الشعوب المستضعفة وممتلكاتها نتيجة اختلال موازين القوى ينتقل تدريجيا من الأطراف إلى المركز
رابعا: تناقض قيم الحرية والمساواة التي هي جوهر الديمقراطية والممارسات العنصرية لدولة الاستيطان الصهيوني. وهذا التناقض قديم قدم الدولة نفسها، ولكنه يزداد تطرّفا وحدّة مع تطاول الزمن وتحوّل التطرّف الاستيطاني إلى ثقافة مهيمنة في الأرض المحتلة، والذي وصلت سمومه اليوم إلى داخل الجسد الصهيوني نفسه، فالصراع بين اليسار واليمين الإسرائيليين، وبين الجماعات الدينية المتشددة والتيار العلماني المتفلت من كل القيود، بما فيها القيود الدينية اليهودية، بلغ مرحلة الاستقطاب المشابه للاستقطابات المجتمعية التي كرّستها السياسات التوسّعية في المنطقة العربية على مدار القرن الماضي، والتي بلغت اليوم قلب المجتمعات الأوروبية والأميركية.
التناقض الأخير الذي نشهده اليوم هو المحصلة التاريخية لجميع التناقضات المُشار إليها آنفا، فتاريخ الاستعمار يعلمنا أن العدوان على حقوق الشعوب المستضعفة وممتلكاتها نتيجة اختلال موازين القوى ينتقل تدريجيا من الأطراف إلى المركز، ويتحوّل من سلوك موجّه إلى الآخر إلى سلوك موجّه إلى الذات. هذا التبدّل العميق في طبيعة الصراعات التوسعية وجذورها القومية والدينية الذي يشهده العالم يعزّز قدرات القوى التي تسعى إلى التحرّر من الظلم والعنصرية والهيمنة، ويحوّل الصراع من أحادي البعد إلى متعدّد الأبعاد يتجاوز حدود الدولة الحديثة ومحدّداتها، ويضعف تأثير الهويات الدينية والقومية لصالح المشترك الإنساني الحقيقي القائم على قيم الإنسان وقيم الرسالات التوحيدية، قيم الحقّ والعدل والمساواة والحرية والكرامة الإنسانية المشتركة. ولعلنا نشهد انعطافا جديدا للقضية الفلسطينية في قادم الأيام يحوّلها من قضية فلسطينية وعربية وإسلامية إلى قضية إنسانية، فالألم والصمود الفلسطينيين يلقيان اليوم تجاوبا شعبيا متزايدا في مجتمعاتٍ بقيت عقودا طويلة مهتمة بمشاغلها الذاتية، وغير مكترثة بما يجري وراء البحار.