تلك "اللجنة" التي لم يكتبها صنع الله إبراهيم
لم تكن "اللجنة" (1981) أول أعمال الروائي المصري، صنع الله إبراهيم، بل أكثرها شهرةً، لكنّه وقد كتب نحو 15 رواية في مسيرته الأدبية، يظل يَدين بمجده الأدبي لأول عمل قصصي كتبه، وهو "تلك الرائحة"، التي صدرت طبعتها الأولى عام 1966، ويمكن عدّها روايةً قصيرةً، "نوفيلا" لا قصّةً طويلةً، وفيها يتبدّى ما سيصبح أكثر من نصف قرن أسلوب صنع الله إبراهيم وصنعته.
كانت "تلك الرائحة" التعميد الحقيقي لصنع الله في الوسط الثقافي المصري، الذي شهد واحدة من أكبر اندفاعاته في تلك الحقبة، التي شهدت أيضاً صعود أكبر المواهب الروائية في الكتابة العربية، فقد حظيت "تلك الرائحة" باعتراف وإشادة نادرين من يوسف إدريس، وبمقال هجائي من يحيى حقّي، وهو من هو. كذلك حظيت بشرف المصادرة فور صدورها. وكان عليها أن تنتظر نحو 20 عاماً قبل أن تصدر كاملةً ومن دون حذف لأول مرّة عام 1986، أي بعد خمس سنوات من صدور روايته الأكثر شهرة "اللجنة".
أتيح لجيل كاتب هذا المقال مواكبة صنع الله إبراهيم، وأبناء جيله، من كثب، وكانت رواياته آنذاك مثل "بيروت بيروت" (1984) و"نجمة أغسطس" (1974) و"اللجنة" و"تلك الرائحة" محلَّ نقاشات لا تنتهي عن تطوّر التقنيات الروائية، والرواية العربية ما بعد نجيب محفوظ، وعلاقة الفنّ بالواقع والسياسة والأيديولوجيا، وسوى ذلك من مشاغل كانت تستحوذ على أولئك الفتية آنذاك، ولم يكن الروائي التشيكي فرانز كافكا بعيداً من تلك النقاشات. والأهم أنّهم كانوا يعيشون الواقع نفسه، الذي كان صنع الله يكتبه ويكتب عنه؛ الغرائبي، الكابوسي، الذي لا يكاد يُصدَّق لبشاعته، لولا أحلامهم بتغيير العالم، التي أتاحت لهم القفز من فوق إكراهات ذلك الواقع، والإقامة في عالم موازٍ، كانت أعمال صنع الله جزءاً منه وتعبيراً فجّاً عنه، فالرائحة التي عَلِقَتْ في ثياب بطل "تلك الرائحة" بعد توقيفه القصير في أحد أقسام الشرطة، الذي تُفتَتَح الرواية به، كانت تداهمك، حيثما ذهبت أو هربت، رائحة العفن والبول والفساد والانهيار القيمي والمجتمعي، التي كانت إنتاجاً طبيعياً لتحكّم "اللجنة" بالنُّخَب والمجتمعات العربية.
نعاين في الروايتين آليات السيطرة والتحكّم من جهة، وآليات التفكيك والتفكّك من جهة أخرى، وكلتاهما أنتجتا حالةً من التشوّه والتجويف والتفكيك، تنبّأ بهما جورج أورويل (رواية 1984). وإذا أتيحت لك فرصة إعادة قراءة "تلك الرائحة" الآن ستشعر بأن بطلها هو الرائحة التي تعلق، لا بملابسك في أثناء القراءة فقط، بل تترسّب في قعر روحك. وإذا قرأت "اللجنة" ستشعر بأنّ ثمّة من يُراقبك، ويوجهك، ويدفعك إلى أكل نفسك، إذا لم تستجب له، وستشعر أنّ ثمّة لجنة ما (بل لجاناً) في أيامنا هذه، تختلف عن تلك التي كتبها صنع الله في أنها معروفة، وبأسماء ووجوه تشاهدها في شاشات التلفزة، لا تحرص على إخفاء هُويَّاتها ونيَّاتها كما في لجنة صنع الله، بل تفاخر بفعل ما عجزت عن إنجازه لجنةٌ كتبها روائي عربي في مطلع الثمانينيّات، وفي ظنّه ربما أنّ هذا أقصى ما يمكن أن يتخيّله الفنُّ عن الكابوس، فإذا هو (الفنُّ) مُجرَّد صبيّ يلعب بكرة من قماش في باحةِ أيّ سياسي أو جهاز مخابرات في المنطقة.
خلال الأيام الـ300 الثقيلة الماضية، لم يتوقف كُتّابٌ فلسطينيون وعرب، وبعضهم كبار وموهوبون، عن تهنئة أحفادهم باجتياز امتحانات الثانوية، والتغزّل بنساء في أعمار حفيداتهم، واكتشاف جمال الورود وأصوات العصافير في مواقع التواصل الاجتماعي، كأنهم يقرأون من كتاب واحد، وزّعته هذه اللجنة أو تلك، ولا أقصد ما توصف باللجان الإلكترونية قطعاً.
اللجنة قد تكون راتباً آخر الشهر، أو لجان تحكيم تمنح جوائز أدبية مُجزية، وكلّها تتبع بطريقة أو أخرى لجنةً أكبر، تتبع أُخرى تُدار في مكتبٍ زجاجي يقف خلفَ نافذته موظّف صغير يرتدي لباس لعبة الغولف، وينظر إلى مدينته السعيدة. الرجل نفسه عنصر صغير في لجنة أخرى، ولا يعنيه في وقفته تلك سوى إطراء قد يصل إليه على "واتساب" من عضو أكبر في اللجنة - الأم.
يا للرائحة، هل تشمّونها؟ يا لبشاعة تلك الرائحة!