تلفزيون العربي.. شجاعة المحاولة

28 يوليو 2017
+ الخط -
وقع مدير عام "تلفزيون العربي"، الزميل عباس ناصر، على التشخيص الأدق بشأن خريطة الإعلام العربي الراهنة، لمّا قال لـ"العربي الجديد" (24/7/2017)، "ما نشهده اليوم من انهياراتٍ قيميةٍ ومهنيةٍ في الإعلام العربي إنما هو ثورة مضادّة، تحاول النيْل مما تحقق خلال العقدين الماضيين، والعودة بالإعلام العربي إلى الوراء، وتحديداً عصر التصفيق والتمجيد، وزمن التعمية على الرأي الآخر، وتهميش الأصوات المختلفة، وفتح الصفحات والهواء للمهاترات الخاوية، والترفيه الرخيص". .. هذا إيجازٌ حاسمٌ للظرف الإعلامي العربي اليوم. ثمّة إنجازٌ كبيرٌ عبر إليه هذا الإعلام، التلفزيوني الفضائي خصوصاً، على صعيدي حريات التعبير وشروط المهنيّة، وقد بدا التنافس بين شاشاتٍ غير قليلة، في مطارح زمنية معيّنة، في العشرين عاماً السابقة على "الرّدة" الحادثة منذ العام 2012، مُفرحاً، وتمكّن، في أثنائه، زملاء كثيرون من اختبار قدراتهم وكفاءتهم على التميّز والتجدّد. وذلك كله قبل أن تنعطف الأحوال إلى ما نعرف ونشهد، لمّا استأسدت قوى الأنظمة الساقطة، وتشكيلات الثورات المضادّة، وتنويعات أهل المصالح والمزايا الراسخة منذ عقود، في صدّ رياح التغيير الواعدة التي هبّت مع الربيع العربي، وقد استيقظت في غضونه قوى حيّة في الشعوب العربية، قبل أن تُبتلى بالإحباط واليأس مع "الانتصارات" الجزئية والفاشية لتلك التشكيلات والتنويعات، في غير بلدٍ عربي. وكان طبيعياً أن تُستنفر تمثيلات التفاهة والانحطاط في الأداء الإعلامي، وأن نرى على الشاشات، وفي الفضاء الإلكتروني، وكذا في صحافاتٍ مكتوبة، ما لم يكن في الوسع تخيّله من قيعان التفاهة. 

يمكن الزعم، من دون تلعثم، أن حرباً مشروعةً، بل وواجبة، على كل من يقدر على خوضها، أفراداً وهيئاتٍ ودولاً، ينبغي أن تقوم، وأن لا تفترّ همّتها، وأن تُساند، في مواجهة هذا الإعلام الساقط، والذي كانت رثاثته، مع أرطال التدليس والكذب فيه، من أدوات الدول التي افتعلت الأزمة الراهنة مع قطر. وفي الوسع أن يُقال إن مصر كانت الملعب الأهم لهذا الإعلام الذي صار يعدّ من أشنع المخازي التي تسيء لمصر، ومكانتها، وقيمتها العظيمة في الوجدان العربي العام. وفي الوسع أن يقال أيضاً إن الخسارات الفادحة التي هشّمت الصورة العامة لقوى الثورة المضادّة، الحاكمة والنافذة، في مصر وغيرها، إنما تعود، في أغلبها، إلى مقادير الشناعة التي اشتمل عليها هذا الإعلام السافل، وواظب على تعزيزها لديه.
في هذه الغضون، أي في أتون هذه المعركة، الضرورية والملحّة، في مواجهة الثورة المضادّة في الإعلام العربي، أطلّ تلفزيون العربي، في 25 يناير/ كانون الثاني 2015، مع اقتراحه الذي ينهض على إعلاء قيمة التعدّدية، والانحياز إلى هموم الناس في كل الوطن العربي، وفي المهاجر وخرائط الشتات والمنافي واللجوء. خاض، بما تيسّرت له من إمكانات، وبما اعتنقه القائمون عليه وفريقُه من إعلاميين ومشرفين، من قناعاتٍ بوجوب تصليب كل إمكانات الإنسان العربي في مقاومة التسلّط والسطحية. نجح في التعريف بنفسِه، وفي أن يحجز مطرحه في الفضاء الإعلامي الشاسع، وفي جذب قاعدةٍ طيّبةٍ من المشاهدين، اتسعت أكثر وأكثر. وفي الرابع والعشرين من يوليو/ تموز الجاري، دشّن تلفزيون العربي مرحلةً جديدة في مسار رهانه الديمقراطي والثقافي والجمالي، وفي تمتين صلته بمُشاهدِه وجمهوره، وذلك في ما أبدعه من تطويرٍ طموحٍ في تعبيراته التلفزيونية المهنية، الفنية والتصويرية، على صعيد الشكل، ليتوازى مع تطويرٍ ظاهر في المحتوى والمضمون، في برامج متنوعة المشاغل، منفتحةٍ على المجتمعات العربية وفئاتها وشرائحها ومستوياتها، من المنامة إلى نواكشوط. ومن دون أوهامٍ بالكمال، أو ادّعاء بالرضا التام، بل بالتوجه إلى النظّارة بأن يستقبلوا المقترح قدّامهم من برامج جديدة بالحوار والنقد الذي يؤاخِذ على أي ضعفٍ أو قصور، ويثمّن أي تميّز وإضافة.
إذن، هي محاولةٌ شجاعةٌ تخوضها هذه القناة التلفزيونية الناشطة والواعدة، لا تتوسّل التصفيق لها كيفما اتفق، وإنما تأمل أن تستكشفها عيون المشاهدين برغبة الوقوع على الجديد، في السياسي والترفيهي والثقافي، بما يحترم العقل دائماً، ويستنفر المخيّلة، وتستطيبه الذائقة، ولا أجازف، هنا، بالزعم أن استكشافاً كهذا سيُصيب مراده.. وهواه.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.