تفكيك أزمة السجناء في مصر بين السلطة والعدالة
نشط النقاش، أخيرا، بشأن سجناء الرأي في مصر، بعد أن كان قاصرا على دوائر سياسية وحقوقية ضيقة، يأتي ذلك كون الملف أحد التحدّيات التي تواجه النظام، ويشكل، في الوقت نفسه، أزمة لذوي السجناء أولا والقوى السياسة ثانيا، بما يحمله من تهديد مبطّن، ومجتمعيا بما يشيعه من أجواء الخوف والريبة عموما، والاقتراب من ساحة السياسة خصوصا.
يطرح الملف في الفضاء العمومي، وفي توقيت دال، ويرتبط ضمن عوامل عدة بسعي السلطة لاستدامة الحكم، والحفاظ على الاستقرار السياسي، ويتزامن مع الأزمة الاقتصادية، والتي تتوقع، حسب ما تعلن السلطة، أن يطول أمدها. ومجمل هذه الظروف تجعل مكونات النظام محمّلة بأعباء مزدوجة سياسية واقتصادية، ربما لعامين أو أكثر، وهو ما يتزامن مع توقيت إجراء الانتخابات الرئاسية في عام 2024، ذلك بموجب التعديل الدستوري 2019، والذي مدّد الفترة الرئاسية الثانية عامين، لذا تفكيك ملف السجناء (ولو جزئيا) بتخفيف الاحتقان السياسي من وجهة نظر بعضهم، طالما يجري في حدود يراها النظام آمنة.
يرتبط النقاش أيضا بسياق وخطاب تصالحي مع قوى اجتماعية مؤثرة، كما رجال الأعمال، كما ربط الملف بدعوة إلى حوار وطني، في حين أن قضية السجناء تشكل أحد حواجز تعيق تقارب بين السلطة والمكونات السياسية، والتي تضرّرت من آليات الضبط السياسي، ولم تعد الشعارات التي تربط بين التنمية وإغلاق المجال العام مقبولة، فضلا عن ارتفاع تكلفتها، من حيث تقييد الحرية، وتفاقم أزمة السجناء، وتقلص فرص المشاركة، والتي لم تقتصر على قوى معارضة، بل طاولت فئات إصلاحيةً جرى استبعادها سياسيا واقتصاديا. ولا يستغرب هنا أن ينعكس ذلك الضيق ويترجم في مواقف فردية، أو استشعار بعضهم (ضمن مراكز أبحاث) بوجود الأزمة، فتصدر توصيات ومقترحات تختصّ قضايا الحرّيات العامة والمشاركة السياسية والمسار الاقتصادي، ذلك قبل أن تطلق رسميا دعوة الحوار الوطني، والتي تناقش الملفات الثلاثة.
الطريق إلى تفكيك الأزمة مستقبلا يستلزم، بمنطلقات العدالة، إصلاحا مؤسسيا وتشريعيا، حتى لا تحدث إعادة إنتاج المشكلة
وتشكّل قضية الحريات ملفا حاضرا بقوة في علاقات القاهرة مع شركائها من الأطراف الدولية، ويؤثّر بقاء الوضع من دون تغيير على فرص التعاون ومناخ الاستثمار والمساعدات والمنح، والتي تعدّ ضرورية، خصوصا مع تراجع الدعم السخي الذي قدّمته أطراف إقليمية لنظام 30 يونيو، وساعد، كمعطى اقتصادي، ومؤثر خارجي، على استمرار قدرة النظام بالقيام بوظائفه إلى حدٍّ ما. واليوم تشتد الحاجة للدعمين: الداخلي عبر الحوار السياسي، مشاركة محدودة ومقيدة داخل المشهد السياسي، وإعادة توزيع خريطة الاستثمارات الاقتصادية أيضا، هذا بجانب القبول، والدعم الخارجي. ينكر بعضهم ذلك، معتبرا أن النظام لا يحتاج للمساندة، وهذا فضلا عن تشوّش رؤية أصحاب هذا الاتجاه وإنكارهم المرضي، فإنه رأي غير منطقي، لأن كل النظم، على تفاوت درجات قوتها، تحتاج إلى ترسيخ شرعيتها والقبول بها محليا ودوليا.
وإجمالا، وعلى الرغم من اختلاف التقييمات بشأن جدّية الحوار وحدود التغيير المتوقع، فإن احتمالية تفكيك ملف السجناء في مصر مكسب لكل أطراف العملية السياسية والمجتمع ككل، وهو إذا جرى فعليا باتخاذ خطواتٍ ذات أثر، يمثل جزءا من مهمة رفع الظلم الواقع عن السجناء وذويهم، وإنهاء أوضاع مأساوية، أحدثتها ممارسات العنف والضبط السياسي، بما فيها توظيف ترسانة قوانين مقيّدة للحريات، وتزيد أعداد السجناء. وعليه، فإن الطريق إلى تفكيك الأزمة مستقبلا يستلزم، بمنطلقات العدالة، إصلاحا مؤسسيا وتشريعيا، حتى لا تحدث إعادة إنتاج المشكلة، وثانيا أن تنطلق جهود إنهاء الأزمة من جلاء الحقائق بشأن عدد السجناء السياسيين. وثالثا تغيير منهج التعاطي مع ملف السجناء من منطق العفو إلى نهج إقرار العدالة، وتوافق التشريعات مع الدستور. وفي كل الأحوال، يجب أن تظل قضية سجناء الرأي في مصر عادلة في حد ذاتها، بغض النظر عن تقييم مسارات الحوار الوطني ونتائجه.
ويمكن النظر إلى مقترحات منظمات المجتمع المدني والأحزاب المتعلقة بأزمة السجناء في إطار مفهوم العدالة القانونية والإصلاح التشريعي، وآليات الإفراج الشرطي، وقاعدة تناسب العقاب مع الفعل، واتساق القوانين مع الدستور، وهو ما يعني أو يؤسّس مستقبلا لتغيرات حقيقية في ملف السجناء، وربما موازين القوى، قد تحدّ من استجابات السلطة لمنهج العدالة القانونية والإصلاح التشريعي، لأنها تتعارض مع منظومة السلطوية الحاكمة، لكن ذلك لا يعني إنكار ما تؤشّر إليه بعض الوقائع، من وجود ميل إلى التخفيف من آثار الأزمة وحجمها، أن المسافة بين تفكيك الأزمة بمنطلقات العدالة والتأسيس لوضع جديد مستقبلا ورؤى السلطة قائمة.
ليس بمقدور لجنة العفو التي أعيد تشكيلها أخيرا أن تنجز ملف السجناء من دون معاونة الأجهزة المختصة
لقد جرى تمرير التشريعات السالبة للحرية وتبريرها في أجواء استثنائية وصراع سياسي حادّ، منها قانون الحبس الاحتياطي، وقانون الإرهاب وقوانين النشر، وغيرها. وتحتاج هذه القوانين إلى مراجعة، فالحبس الاحتياطي حوّل الإجراء الاحترازي إلى عقوبة فى حد ذاتها، وتعديل القانون، بما يقلص فترة السجن إلى أقل مدة، يوفر الحرية لكل السجناء احتياطيا على ذمة التحقيقات في قضايا الرأي والنشر، ويؤدّي التعديل مستقبلا إلى تقليص عدد السجناء، كما يحدّ مما جرى تسميته التدوير في قضايا جديدة.
وضمن المعايير المهمة، التعاطي مع السجناء من دون تمييز، حيث يلحظ أن قرارات إطلاق السراح (ما زالت محدودة) تتركز أولا على فئة ضيقة ونخبوية من الأسماء المعروفة إعلاميا، وترتبط بالمرتبة الاجتماعية والسياسية، وهذا يتجاوز معيار المساواة ويحمل رسالة الاسترضاء لفئاتٍ تمتلك شبكة علاقات مع السلطة. كما من المهم النظر إلى قضية السجناء بوصفها مشكلة لا تخص السياسيين وحسب، لأن المتضرّرين منها دائرة أوسع، وإذ كان القانون يطبّق في حالة الإدانة على الكل، فلا يمكن في حالة الإفراج الشرطي أو العفو يقتصر على بعض المدانين.
ولكي تنجح سبل تفكيك أزمة السجناء في مصر، يجب أن تنطلق بوصفها قضية عادلة في حد ذاتها، وليست شرطا لتقدّم الحوار الوطني أو مربوطة بمخرجاته، فسجناء الرأي قانونيا ليسوا أسرى لتغيير في العملية السياسية. وفي هذا السياق، ليس بمقدور لجنة العفو التي أعيد تشكيلها أخيرا أن تنجز ملف السجناء من دون معاونة الأجهزة المختصة، وبالذات في ما يتعلق بتوفر بيانات السجناء وملفاتهم، والصيغة التي تعمل بها اللجنة مقلوبة حاليا، حيث تجمع البيانات بنفسها أو تتلقّى ترشيحاتٍ من أحزابٍ ومن لجان المجتمع المدني ومنظماته، ما يعنى بقاء حرية سجناء مقيدة، وامتداد الأزمة. وأغلب الظن، وكما يتضح أخيرا، أن قرارات العفو تخصّ قيادات الأحزاب والنخب من الأسماء المعروفة لدى الجمهور، أي تمثل اللجنة موقع الوسيط من أجل مئات من سجناء سياسيين يحتاجون إلى العفو.
تتكامل أي خطوة لتحسين ظروف السجن وتطبيق اللوائح المختصة وتحسينها أيضا مع مطالب تحرير سجناء الرأي
وعليه، الخطوة الأساسية الآن ومستقبلا لتفكيك أزمة السجناء هي جلاء الحقائق بشأن عددهم، والتي تتفاوت التقديرات بشأنها، وكذلك بيان عدد المحبوسين احتياطيا. والخطوة الثانية، طرح خطّة بتوقيت زمني، للنظر في ملفات السجناء الذين جرى الحكم عليهم في غير قضايا العنف، وتحديد توقيت لإنهاء الأزمة، مع تحديد أن المستهدف هم السجناء السياسيون، وليس الخلط بينهم وبين سجناء القضايا الجنائية مفيدا على كل حال، ولن يرفع الأسهم ولا يغير الواقع ولا يحل المشكلة الأساسية محل النقاش. صحيحٌ أن العفو عن كل سجين بموجب الإفراج الشرطي ضمن حيثيات القانون، لكن في الوقت ذاته، تم العفو عن قتلة ومجرمين وفاسدين بمنطق العفو السياسي ضمن حالة حوار وطني، ومساواة هؤلاء بغيرهم من سجناء سياسيين لا يمكن النظر إليه بوصفه إنجازا أو إصلاحا.
وأخيرا، تتكامل أي خطوة لتحسين ظروف السجن وتطبيق اللوائح المختصة وتحسينها أيضا مع مطالب تحرير سجناء الرأي، والتي بالإمكان، في خلال أيام، وعبر ما لدى جهات التحقيق من سلطة الإفراج عن سجناء بضمانات قانونية، إطلاق سراح المحبوسين احتياطيا، وهو حلٌّ طبق فعليا في نطاق محدود مع بعض الحالات أخيرا، وضمن الحلول السريعة أيضا، إصدار قرارات بالعفو العام في قضايا الرأي والنشر بوصفها ليست عملا إرهابيا، ولا علاقة لها بممارسة العنف.
وفي الختام، فتح قضية السجناء للنقاش العام مكسبٌ بكل تأكيد، ولا يتناقض مع تفاوتٍ في تقديرات سياسية لدى بعضهم بشأن جدوى الحوار الوطني أو المشاركة في جلساته، ولا يعرقل مسار تفكيك الأزمة أن تتخذ الأطراف السياسية مواقف متباينة بشأن الحوار، على أن تفكّر، في الوقت نفسه، كيف يمكن أن تفكّك أزمة السجناء وما سبل حلها إن لم تكن استجابات السلطة وخطواتها كافية.