"تغريبة القافر" ... سحر الماء والأسطورة
قبل عبورها إلى رواية العُماني، زهران القاسمي (1974)، "تغريبة القافر" (وشم للنشر والتوزيع، تونس. مسكيلياني للنشر والتوزيع، الشارقة، 2022)، تقترح هذه المقالة على كارهي الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) وجوائز مثيلاتٍ عربياتٍ لها تشكيل رابطةٍ لهم، تجمعُهم وتُلملم نشاطهم. وهم الذين سارع بعضُهم إلى التبخيس من شأن هذه الرواية وقيمتها، ورمي المحكّمين الذين منحوها الجائزة الأحد الماضي بنُقصان الأهلية، وذلكم فيما كتبوا إنهم لم يقرأوا منها غير سطور، أو لم يقرأوها، فذهبوا إلى أن الجائزة مُنحت لها لأن كاتبَها عُماني. وأصحاب هذا الكلام وأشباهه وفيرون.
أما بعد: الرواية الفائزة بالجائزة العتيدة في دورتها الـ16 جديدةٌ عربيا في إيقاعها العام، ومبتَكرةٌ إلى حدٍّ ظاهر. إنها تنهض على الأسطوري والغريب والعجيب، وتُوازي بين الخرافيّ والحقيقيّ، وتنبني على بعض الترميز والتجريب، في قولِها مُرسَلَتها عن الحياة وإرادة الخصب والنماء ومقاومة الموت والجفاء والجفاف، وعن الارتحال والاغتراب والهُجران. وذلك كله في سرد الراوي العليم الذي يجري حكيُه كما جريان الماء المتمهّل. ولعل واحدةً من وجوه فرادةٍ متحقّقةٍ في هذا العمل الرفيع القيمة بطولةُ الماء فيه. وفي الوُسع أن يُقال إن "تغريبة القافر" رواية الأسطورة والماء معا، فالقافر، الذي شُقّ بطن أمّه الميّتة لمّا غرقت فخرج منه حيّا، وهو الشخصيّة المركزية في النص، يتقفّى أثر الماء في الوديان وبين الصخور وخلفها وفي الجبال والسهوب، يسمع خريره في جوف الأرض وبين الشقوق. يبدو البحث عن الماء، في تشمّم أمكنته المخبوءِ فيها، بحثا عن سرّ الحياة، كأنه سرّ بقاء القافر حيّا فيما أمُّه أماتها الماء نفسه، فيجعل زاهر الغافري مكابدة الحياة وتصاريفها والعطش في غضونِها إلى الدّعة والسلام، وإلى خصبٍ أكثر، إلى زرع، ونسلٍ، ثيمةً إلى حدٍّ ما لعمله الذي يسلك مغامرةً في تجريب الحكي عن الخرافة، تهزّها إرادة العقل، والاحتفاء بالجسد، والسفر في الطبيعة، والحفر في الأرض من أجل ماء ونماء.
قولٌ في محلّه ما في كلمة رئيس مجلس أمناء جائزة بوكر العربية، ياسر سليمان، في حفل تكريم أصحاب روايات القائمة القصيرة والعمل الفائز بالجائزة الأولى في أبوظبي، إن "تغريبة القافر" يميّزها سردُها الانسيابي انسياب الماء بإيقاعها الشاعريّ الذي يطلوه حلاوة ورشاقة". وقولٌ في موضعِه أيضا ما جاء في كلمة رئيس لجنة التحكيم الشاعر والروائي، محمد الأشعري، عن "بناءٍ روائيٍّ مُحكَم، ولغةٍ شعريةٍ شفّافة" وعن "نحت شخصياتٍ مثيرة". وإذ يتوالى السرد بكلاسيكيةٍ محفوظيةٍ، وبتدفّق، فإنه يزدحم بمشهدياتٍ تتقاطع وتتراكب، في الانتقالات من محكيةٍ إلى أخرى، إحداها عن الزوجة التي تنتظر طويلا زوجها القافر المرتحل والمسافر، الباحث عن مستقرّ، وتغزل الصوف، في الأثناء، وتسمّي خيوط نسيجها بأسماء الأفلاج التي حفَرها زوجُها الغائب والبعيد، ولا تيأس من لقاءٍ به، فلا تتزوّج، إنه "الرجل الذي احتفظت به في ذاكرتها، الرجل الذي طال النسيان كل شيء فيها إلا وجهَه". غيبتُه في واحدةٍ من مقاطع تغريبته ونزوحه المديد إنما لاقتفاء حُلمه في أن يصبح مالكا أرضا يزرعها. وبعد 11 فصلا للرواية، نصير، نحن القرّاء، في الخاتمة التي تبدو اكتمالا لزمن تام (12 شهرا)، يُصارع القافر بين صخرةٍ وحجارةٍ متساقطة، ويضرب في جبل، ثم "لم يكن يعلم أن جسد الصخرة يتداعى أمامه. كان غائبا في غضبه، متّحدا مع مطرقته في هدم الجدران التي واجهته، وهو الوحيد، الغائب، السجين، الموجوع، الجائع، العطش ... تداعت الصخرة أمامه، وانفتح الخاتم على النفق الطويل، فانطلق الماء بقوّة وجرف كل شيء".
وُصِفت هذه النهاية التي نغادر منها هذا النص الروائي، اللافت حقّا، بأنها سينمائية. ربما جاز هذا، غير أن الأهم أنها نهايةٌ ممتلئةٌ بالإيحاءات، مثقلة بما يمكن أن يُعدّ فلسفيا ووجوديا، حيث الزمن دائري، ومختتم التغريبة كأنه مختتم والدة القافر (ووالدِه) بين الماء، وحيث النهاية لعلّها ليست النهاية، فمن يدري هل مات القافر عندما جرَفَ الماء كل شيء. وهذا التباسٌ أظنّه فاتنا، موصولا بفتنةٍ في هذا النصّ الذي يمدّ راهن الرواية العربية بإشراقةٍ حسنة المعنى والمبنى والمنطوق، باجتماع الأسطورة والماء في سحر الحكي ولغته العالية بأنفاسها الشعرية وغير الشعرية.
كأن كلاما كهذا ثقيلٌ على كارهي جائزة بوكر العربية ومثيلاتها... فليكن.