تركيا تحمي أمنها القومي فمن يحمي هذه الشعوب؟

12 ديسمبر 2022

طفلان سوريان أمام مخيم للنازحين في جبل برسيا قرب حدود سورية وتركيا (27/11/2022/فرانس برس)

+ الخط -

تدور غالبية المواد المنشورة المتعلقة بالتوترات الحاصلة في مناطق سيطرة "الإدارة الذاتية" في سورية حول حدوث العملية العسكرية التركية أو عدمه، والشروط الأميركية والروسية والسورية والتركية، ورفض قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أو قبولها، وحول حجم الهوَّة والفوارق المرعبة في التجهيز والعتاد والسلاح وعدد العساكر المشاركين فيها بين الطرفين. كما تعبر فصائل المعارضة السورية عن "الغبطة" التي تنتابها، وهي تتهيأ الفرصة للتكشير عن أنيابها ضد "الإدارة الذاتية" وعموم أجهزتها الأمنية والعسكرية، فيما لا تتمتع هذه الإدارة، ومن ورائها غالبية قياداتها، بأيّ سلطةٍ على قرارٍ واحد في ما يخص الجانب الأمني - العسكري واتخاذ قرار السلم والحرب. لكن ما فات غالبية تلك الكتابات أن في ساحة الكتابة عن "ترند" الخبر الساخن حالياً زوايا تحمل من صلابة الأهمية ما لا يقل عن مآلات العملية العسكرية نفسها. 
وقبل الخوض في تلك الجوانب الغائبة، لا بد من القول إنّ أربعة ضواغط مركّبة تُحدد طبيعة التعامل بين الإدارة الذاتية والمجتمع المحلي، تزيد من الهّم والتباعد بينهما، أولها أن الدول ذات الشأن والقرار في مسارات الحل السياسي والانتشار العسكري في سورية، والتي تحتمي بها "قسد" أو تطلب منها التدخل، هي نفسها التي تقول إنها تتفهم المخاوف التركية على أمنها القومي وحماية حدودها الجنوبية. ثانيها: تقضي القواعد الاجتماعية جُلّ وقتها في كيفية الخروج من متاهات الحياة، عبر البحث عن توفير أبسط مستلزماتها المعيشية، وسط استمرار "الإدارة الذاتية" في عجزها عن توفير أبسط شروط الاستقرار. ثالثها: تغوّل شبكات الفساد والبرجوازية الحزبية التي تدر بالمنفعة على شرائح محدّدة قليلة، سحقت بتصرفاتها وجشعها الطبقة الوسطى، وما يتمخض عن ذلك من آثار سلبية كبيرة. ورابعها: أن انتشاراً كثيفاً للأمراض النفسية والعصبية بين الكبار، والاضطرابات السلوكية بين طلبة المدارس، كما أن هناك تطلعاً صوب الهجرة، وانتظار الحوالات المالية الخارجية الشهرية؛ للاستمرار على قيد الحياة. هؤلاء على شجاعتهم وإخلاصهم لبلدهم لا يُمكن التعويل عليهم، فالجائعُ لا يحمل بندقية للقتال.

يجرى التغاضي عن الحديث عن الجانب الإنساني ومصير الملايين من القاطنين، وتجاهل سؤال إلى أين سيذهبون ويفرّون

وفي الحديث عن الجوانب والزوايا الغائبة، يجرى التغاضي عن الحديث عن الجانب الإنساني ومصير الملايين من القاطنين، وتجاهل سؤال إلى أين سيذهبون ويفرّون، فلا مخيمات كردستان العراق تسعهم، ولا تركيا يُمكنها احتضان المزيد. ومع المأساة المعيشية والاقتصادية التي تحاصر الغالبية العظمى من الأهالي، ماذا سنقول، نحن المبتلين بالعيش في هذه المساحات الجغرافية الواسعة، التي تضيق باستمرار بوجودنا وحيواتنا وتطلعاتنا المستقبلية صوب سورية جديدة، فكثافة التنمر والتهديد المنتشر عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض المنصّات الإعلامية حول العملية الممكن حصولها، تحملنا إلى اتجاهين مختلفين تماما بشأن الموقف من تلك العملية. فهي أولاً: بالنسبة لقوى المعارضة وفصائلها، وقسم غير قليل من النخب السياسية والثقافية والعسكرية السورية، تعبير عن نوعية وعيها بذاتها وبالهويات المخالفة لها، ومدى استعدادها لمحقها وسحقها، بغضّ النظر عن النتائج والمستقبل والتداعيات، وبل اعتبارها ثورة حقيقية، من دون الاستفسار عن مصير الملايين ممن لا علاقة لهم لا بـ"الإدارة الذاتية"، ولا بكامل الحياة السياسية والعسكرية، هؤلاء الذين فقط يرغبون أن يعيشوا بهدوء وأمان. لكنها ثانياً: لمن يفضل الحلول السياسية على العسكرية، فإنها تتعلق بسياقات ذلك التدخل ومآلاته ومستقبله، وأيُّ مشاعر ستحملها الأجيال القادمة، بشكل أخص الكردية منها، بشأن وعيها بمقولات العيش المشترك والتاريخ الواحد.
خصوصا أن تجارب تلك الفصائل في عفرين وسري كانيه وتل أبيض لا تزال واضحة للعيان من انتهاكات وتهجير وسلبٍ للأرزاق. وإذا كانت بدايات تأسيس المعارضة السورية على أساس حقوق الشعب السوري في الحرية والاستقرار والكرامة، فإن فصائلها هدرت كل الكرامات في مناطق عيش الكُرد. علماً أن تجربة الإدارة الذاتية في عفرين كانت تحمل من المآسي ما لا يمكن نسيانه أو التنازل عن ذكرياته، لكن الغُبن الواقع جرّاء المواقف من الهويّة الكردية أحدث كتلة ضخمة وصلبة من المخاوف من تلك الفصائل، وتحوّلت إلى ذاكرة جمعية لا يُمكن نسيانها أو عدّم تخيلها في حال أي عملية عسكرية جديدة.

فصائل المعارضة السورية تذوب ولاءً لتركيا، ومستعدّة لحمل مشاعر العداء تجاه أي فئة ترغب بها أنقرة

ووفقاً للمواقف المتباينة من العملية العسكرية التركية، وتناسي مستقبل المواطنة والعيش في هذه البلاد، فإن ديناميكيتين متصارعتين تتولدان جرّاء ذلك، وربما تكون المتحكّمة بمستقبل بلادنا ونوعية الصراعات الهوياتية المقبلة، وتتولد منها ديناميكية ثالثة. الأولى: الاختلاف الجذري بين مواقف أهالي المنطقة وتطلعاتهم من جهة، وتركيا والمعارضة وفصائلها من جهة ثانية، فكل جهة تملك مرويات خاصة بها عن أشكال الوعي المتكوّن من الآخر، ففصائل المعارضة السورية تذوب ولاءً لتركيا، ومستعدّة لحمل مشاعر العداء تجاه أي فئة ترغب بها أنقرة، الأمر الذي يعني إمكانية وجود حجم كبير للسرديات والقناعات المختلفة والمتعارضة للمجتمعات المحلية ضمن الوطن الواحد، حول استمرار فئة تمنح نفسها حق تقرير مصير غيرها، وأن تعتقد بنفسها أنها تأخذ مكانة الصدارة والأولوية والأحقية في تقرير مستقبل الآخر. شيء شبيه بسردية أحقية الثقافة والهويّة العربية للسيطرة والتعبير عن غيرهم من الشعوب والهويات المغايرة لهم، تلك الفئة تمنح نفسها الحق في سحق كل مخالفٍ لهم، وفي طريقهم يتم محق (وطحن) البشر على اختلاف انتماءاتهم، إلى درجة أن الذاكرة الكردية في عفرين/ سري كانيه مثالاً ، تُشكل وعياً بمستقبلها مع تلك الفصائل، فربما ستنسى ما حصل لها أيام التعريب والإلغاء الذي مارسته الحكومة السورية عليهم، وربما ستؤجل مشاعر العسف السياسي والإداري للإدارة الذاتية، وستخصّص ذاكرتها لما لاقته من فصائل المعارضة السورية، لتصبح ذاكرة جمعية واضحة حول التاريخ والمناهج والتعليم والصحة والأملاك والحريات الدينية والفردية والسياسية وغيرها، لتتحوّل تلك الفصائل إلى كتلة غير موثوقة بالكامل.

العواطف والرومانسيات الثورية ما عاد لها وجود أمام تغوّل قوة المصالح، وحجم التحكّم بالملفات الاستراتيجية التي تتمتع بها تركيا

الديناميكية الثانية: تتعلق بنوعية خطابات للإدارة الذاتية، التي تسعى نُخبها السياسية والثقافية لفرضها على عامة الناس، بشأن طبول الحرب الجائرة، من دون معرفة أن العواطف والرومانسيات الثورية ما عاد لها وجود أمام تغوّل قوة المصالح، وحجم التحكّم بالملفات الاستراتيجية التي تتمتع بها تركيا، خصوصا إبّان الحرب الروسية على أوكرانيا، وحاجة موسكو العميقة للرضا التركي في ملفات عديدة حسّاسة، فمحاولة الرفع من قيمة الفرد المواطن عبر تلك الخطابات لإقناعه بشراكته في هذه البلاد، ستبوء بالفشل العميق، لأنّ الفكرة والقناعة المتشكلة لدى مختلف الجماعات الأهلية المحلية تُشككان بتلك الخُطب والمنافخين في سبيلها، وسيادة حالة الخوف لدى الأهالي من "الإدارة الذاتية" لا تُجدي سياسات رفع المعنويات معها في شيء؛ لأن تشكل وعي السكان بالمخاوف الجدية للحملة التركية، في حال حدوثها، تجاوزت تلك السرديات والشعارات التي تُردّدها النُخب التي جُهزت لأجل هذا الشيء أساساً، وتضخّمت أناها إلى درجة أنها تظن بأحقية امتلاكها النزعة الفوقية تجاه باقي التشكيلات الاجتماعية والسياسية والثقافية في المشهد العام، من دون أن تُقدم فكرة واحدة تمنع ذلك الاجتياح، ما خلا حجم السباب والشتائم والتهديد الفيسبوكي لتركيا وجيشها وفصائل المعارضة السورية. والأكثر إثارة للاشمئزاز أنّ قسماً ليس قليلاً منها فقير المعرفة وضحل الاطلاع على خبايا السياسيات الدولية التي لا تهتم كثيراً لقضايا التضحيات وما شابه.
وأمام الخلاف الجوهري للديناميكيتين، تختص الديناميكية الثالثة بمن يبحث عن حلٍ سياسي من دون بقاء جذر التهديدات التي تتحدّث عنها تركيا، وبعيداً عن حجم الأحاديث التي تتسبّب بتلوثٍ فكري ومحاولة الاستغباء الشعبي في أعلى مستوياته، هي ديناميكية المظلومين والخائفين من جدّية تلك الهجمات، والساعين صوب أيَّ حلّ يكفل البقاء على قيد الحياة، وضمان عدم نسف الهويّة الجامعة المأمولة، والباحثين عن الاستقرار والأمن الوطني المستدام، في انتظار صباح يومٍ بدون تهديد أو حروب مستقبلية، وعلى أملِ العثور على من يحميهم، ويؤسّس للشراكات السياسية لمكونات المنطقة... هؤلاء تحديداً لا تكترث الأقلام والصحف لحالهم ووضعهم، فيُطحَنون مرّتين، أمام بطش العسكرة، وإهمال الإعلام والكتابات لهم ولحيواتهم.