تديّن فاسد ووطنية فاسدة
الحل الأسهل، والآمن تمامًا، في مأساة اغتيال الطبيبة المصرية الشابة، هو اتهام المجتمع بالفساد والتهتك القيمي والانحلال الأخلاقي، من دون أن يُرهق أحد نفسَه في التساؤل عن المسؤول عن"تصنيع"هذه الحالة المجتمعية المتوحشة، والتي تهاجم الجميع في لحظاتٍ نادرة، غير أنها مزلزلة.
حسب الرواية المنشورة عن مقتل الطبيبة، فإن حارس البناية ومالكها وشخص ثالث، قرّروا أنهم يمتلكون سلطة القانون وسلطة الشرع. وبالتالي، لم يردعهم شيٌ عن اقتحام مسكنها الخاص، لتعنيفها وتأديبها ومعاقبتها، دفاعًا عن شرف العمارة (الوطن المصغر) وقدسية ترابه، حتى انتهى الأمر بفاجعة سقوطها، أو رميها من الطابق السادس. هنا، يحضر الاستقطاب الكريه في التعاطي مع المأساة، لنجد أنفسنا، مجدّدًا، محشورين في الطاحونة اللعينة، باستدعاء ثنائية الدين والعلمانية، في اشتباكٍ عبثيٍّ لا ينتهي.
إقحام الدين في مثل هذا النوع من الجرائم الاجتماعية هو من أشكال الصفاقة والاستثمار الوضيع، ذلك أنه، مع افتراض تصديق مزاعم المتواطئين على قتل الطبيبة، وأنهم فعلوا ذلك انتصارًا للشرع وللفضيلة، وليس انطلاقًا من نوازع انتقام شخصي وغلٍّ اجتماعي، فإن هؤلاء، بجريمتهم، لا يمثلون الدين، أي دين، بل هم التجسيد الحقيقي لإهانة الإنسان للدين.
بمعنى آخر، هذا شكل من التدين الفاسد، هو الوجه الآخر للوطنية الفاسدة، وكلاهما نما وترعرع وساد واستفحل واستقر على عين السلطة وبرعايتها ودعمها المطلق، وباستثمارٍ مباشرٍ وصريحٍ في الوجهين: التدين المغشوش والوطنية الزائفة، لكنها عند اللزوم لا تتورّع عن تسويق مقولات من نوعية إن العيب في المجتمع، والأزمة في الناس، وليست فيها.
السلطة هي التي سمحت بالاجتراء على الدين، وإنتاج مفاهيم وتفسيرات فاسدة منه لتحقيق أهدافٍ تخصّها، وتمنح المجترئين مزايا ومكافآت كثيرة شخصية، تمنحهم رتب الاستنارة، تماما كما أنها التي فتحت الباب لاجتراء الأفراد على القانون، واستخدامهم واستخدامه في عملياتٍ قذرةٍ لتصفية الخصوم والمخالفين لتوجهات هذه السلطة، في مقابل أن يستمتع هؤلاء الأفراد برتبة "الوطني الشريف".
سمحت السلطة بتغوّل المجتمع على المجتمع في حريق 2013، فكان معارضوها يقتلون في بيوتهم وفي الشوارع والميادين، بفتاوى من مشايخ التديّن الفاسد، وبسلاح الوطنية المغشوشة، من دون حساب. حدث ذلك مع بنات تظاهرات المنصورة، وتكرّر بصورة أكبر وأفدح في ميداني رابعة العدوية ونهضة مصر ومسجد الفتح في رمسيس، ثم حدث في واقعة المستشار هشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات.
ما الفرق بين وقائع الاعتداء على طبيبة السلام التي انتهت بموتها ووقائع مهاجمة البلطجية (المدفوعين من السلطة) للمستشار جنينة وإسالة دمه، لتنتهي المأساة بتحويله متهمًا وإدانته وسجنه، وتبرئة المعتدين؟ الشاهد أن السلطة هي التي صنعت، عامدةً متعمدةً، هذه الحالة من الفاشية المجتمعية، حين أوحت للأفراد أن الاجتراء على القانون، وعلى الشرع، أمرٌ مسموحٌ به ومصرّح به، ما دام في خدمة الوطن الذي هو السلطة التي تحارب أعداء الوطن، بل الأمر كان قد اقترب من اتخاذ الشكل الرسمي، حين كانوا قاب قوسين أو أدنى من تمرير ما أسميتها في العام 2014 "مسخرة الشرطة المجتمعية التي ترمي إلى تسليح من تسمّيهم السلطة "المواطنين الشرفاء"، ويعرف المجتمع أنهم "البلطجية"، مع منحهم الصفة الرسمية ودمجهم في المنظومة الأمنية".
التجلي الأوضح لهذه الوطنية الفاسدة، المغشوشة يحاصرك الآن من كل الاتجاهات، لمناسبة إدانة 31 دولة لانتهاكات حقوق الإنسان في مصر. وبدلًا من مراجعة النفس، والنظر في المرآة، للوقوف على المشكلات الحقيقية التي دفعت دولًا كانت، طوال الوقت، تدلل هذه السلطة، إلى اتخاذ موقف جديد ومختلف أصاب النظام ودوائره بالارتباك والاختلال، وجدنا النظام ودوائره السياسية والإعلامية يذهبون إلى الحل الأرخص، والذي يفاقم المعضلة ولا يعالجها، وهو اتهام 31 دولة بالتآمر على مصر، وشن الحرب ضدها، حسدًا وحقدًا على تفوّقها ونهضتها وتقدّمها.. إلى آخر هذه الأوهام التي نضجت فوق مواقد الوطنية المغشوشة.