تدوير الخراب بين شمال "المملكة السورية" وجنوبها
في حين أنّ مخاضات الثورة السورية، بخلاصتها الكارثية الراهنة، تبدو مادّة مثالية للتحليل، ومحلاً للقياس في مؤشّر التوافق الوطني ومواثيقه ورؤاه، إلا أنها تُظهر، وبصورةٍ جليّة، جوهر صراع المصالح السياسية والعسكرية الذي أقام ممالك متقاتلة في تجاوزٍ سافرٍ لمعادلة "إزاحة الأسد" وما خلَّفته عقودُه العجاف من الاستبداد والقهر. في المقابل، وحتى لا يُعاب علينا التنظير أو ترويج أفكار وردية، خصوصا أن لا مؤشّرات واضحة على سقوط الأسد القريب، إلا أنّ الفيلسوف الألماني هيغل في سؤال "المعقول" أكّد، بثقةٍ مطلقة، أن الواقع لا بدّ أن يتغير، وعليه يحتّم، بالضرورة، وجود سياق تاريخي قادم إلى سورية المنكوبة خاضع لقوانين الصيرورة والتحويل، ما يدفعنا إلى التسليم بأنّ من عزاءات السياسة السورية اليوم فكرة الـ"ما بعد"، والتي تدحض ما تبقّى من شك أنّ لنظام الأسد جذرٌ وحشيٌّ تنفّسه على هيئة صراع دموي، مستنسخاً النظام السياسي لألمانيا الشرقية السابقة (شتازي)، أعتى الأنظمة البوليسية في العالم، والذي هدف إلى "تجزيء" المعارضين و"شلهم وتصفيتهم" دونما رحمة. على التوازي، يُرجعنا الوصف الذي يفضّل بعضهم استخدامه بديلاً للحقيقة إلى الالتباس: "المشهدُ السوري الحالي نتاجُ صراع أيديولوجيات ورايات وبيانات"، بينما تفيد المعطيات بأنّ الثورة السورية، التي أخذت على كاهلها لحظة تأسيس مهمّة في بلورة خطاب موحّد، دفعت النظام إلى لحظته المشتهاة ونيته تعطيل المشروع الوطني أو أقلّه تمييعه، ليجعل منها شرارة تغيير نحو هندسةٍ اجتماعية وجغرافية جديدة، أرادها، منذ نشأته، لتعزيز "أبديّته". وبغضّ النظر عن آليات الترهيب والترغيب المستخدمة، إلا أنّ الثورة، وللمفارقة، كانت فرصة النظام الذهبية لتقسيم البلاد إلى كانتونات طائفية حاقدة، أفرزت بمجموعها طاعون "السكون الوطني" الذي طغى على المشهد العام، ما يُعيدنا إلى بادئ ذي بدء ويعطينا إجابة شافية عن تحوّلِ أكثر بلدان المنطقة إشعاعاً وتطوّراً إلى ممالك متناحرة بلا تيجان أو عروش.
حين يهيمن "اللايقين الوطني" غارقاً في التعمية، تصبح كوّة الأمل نافذة غير منتجةٍ سوى مزيدٍ من التشتّت المستدام
أما استسلامنا للسؤال الشائك بشأن ماهيّة التغيير المقبل، فيبدو عارياً من أيّ إجابة منطقية، وثلّةٌ من الأسئلة تطرق بوابات العام الجديد، تعزّزها مشاهداتٌ حيّة أخطرها صمت الموالين وسط التهميش الممنهج لانتفاضة السويداء التي طاولتها الاتهامات والمؤامرات والتحشيدات الطائفية والمذهبية بمجرَّد أن طالبت بالتغيير السلمي والإصلاح السياسي للسلطة، هي التي أكّدت ضرورة الابتعاد عن الجهات والقوى التي تتحرّك بفعل التمويلات المشبوهة، سورية أم خارجية، والتي تطرح مشاريع انفصالية أو انعزالية مبتعدة عن هدف بناء الدولة الوطنية التي تحتضن الجميع. يأتي هذا بالتوازي مع إبرام العقد الاجتماعي لـ"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) التي تعمل جاهدة لأجل إخفاء سلطتها العسكرية القمعية خلف عدّة مظاهر مدنية خدّاعة، يبدو أنها استطاعت إيهام بعض السوريين بأنّ مشروع حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو الفرع السوري لحزب العمّال الكردستاني، المصنّف منظمة إرهابية، هو مشروع وطني!.
جدير ذكره أنّ معظم أبناء منطقة الجزيرة يعرفون أنّ قادة "قسد" الحقيقيين هم من غير السوريين، وأنه لم يكن هناك استفتاء شعبي على العقد وعلى يقين مطلق بأنّ إقرار الأخير مشروعُ استقلال مبطّن في خطوات سياسية آثمةٍ تقوم بها مليشيات انفصاليّة تسيطر بدعمٍ أميركي على شمال شرق البلاد. إذاً، الشك ضرورة عقلية لأزمةٍ مستعصية تذهب باتجاه إعادة تدوير الخراب، وسط التساؤل عن شكل المنتج النهائي الذي سيتمخّض عنه الواقع السوري المأزوم، فحين يهيمن "اللايقين الوطني" غارقاً في التعمية تصبح كوّة الأمل نافذة غير منتجةٍ سوى مزيدٍ من التشتّت المستدام، ما لم تحسم السياقات المفعمة بالضبابية في مشروع وطنيٍّ جامع، وتنفي معقولية شعبٍ "متناحرٍ أهلياً" لإنتاج عقدٍ مدنيٍّ يجمع شتاته في دولة الديمقراطية والحرّيات المدنية؟
مرحلة استحقاقات حالة السيولة وتقريش الحرب السورية تستمر في ترتيب قواعد اللعبة الجديدة
بالبناء على ما سبق، وخلال عقد ونيّف من الصراع السوري المحتدم، وتحت حجّة المشروع الوطني المُشتهى، سيقت أكاذيب وأحابيل كثيرة في طرح المتناقضات السياسية، ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تتخبّط التوقعات في تباينها العام عن مجريات الوقائع الراهنة والتي، للأسف، لن تقدّم منتجاً سياسياً حقيقياً يمكن البناء عليه، وسط تزايد فوضى المصالح بين سلطات الأمر الواقع وتتويجها كممالك متشرذمة متناحرة. ولن يطول الأمر، إذ سيخرُج المخبوء إلى العلن، ولن يبقى أسير التخمينات، فها هي مرحلة استحقاقات حالة السيولة وتقريش الحرب السورية تستمر في ترتيب قواعد اللعبة الجديدة، وسعْي كلّ طرف إلى تسيّد أفضل مركز يمكّنه من الحصول على أكبر قدر من الغنائم والنفوذ. ولعلّ كشف المخبوء بدأ عام 2019، عندما دشّنت وزارة الدفاع الروسية ما يُسمّى قطار "غنائم الحرب في سورية، "الذي حمل على متنه الأسلحة المُصادرة خلال العمليات العسكرية التي نفذتها القوات الروسية في سورية منذ تدخلها في سبتمبر/ أيلول 2015، والذي زار جميع المدن الروسية الكبيرة.
على أي حال، يبدو أسوأ وأخطر انكشاف هو ما نتابعه يومياً من صلافةٍ مستفزّة لدور النظام السوري، الذي سيدفع الثمن عاجلاً أم آجلاً لانتهاء صلاحيّته السياسية، هو الذي ارتكب الخطأ التاريخي القاتل بعد إفرازه "عصر الكيانات اللادولتية" كوصفةٍ لتبييض سلطته المليشياوية فاقدة الشرعية. بهذا المعنى، يعتبر السلوك الذي تبنّاه الأسد على مستوى السياسة الداخلية والخارجية ضرباً من الجنون والانفصام، فالنزعة الشمولية التي وسمتْ ذهنيته الخشبية لا تتناسب مع قدرة البلد على الاستمرار في التعامل مع الحلفاء أو الأتباع، وحتى الأعداء، هو الذي لم يتبنَّ رؤية "مكيافيللي" الذي قدّم نصيحةً للأمير للتخلّص من ورطة الاستعانة بقواتٍ أجنبية مرتزقة بالحديث عن قيصر "بورجيا"، الذي عندما شعر بالخطر بطشَ بجميع القوى واعتمد على جنوده فقط، ما زاد شعبيته بطريقةٍ مضطردة. كلّ ما فعله، والحديث عن الأسد، أنه أغرق نفسه في مستنقع التحالفات السامّة متمرّغاً في طين الديون الذي أودى بسيادته وهيبته.
آخر الخطوات نحو القاع السحيق إخراجُ السويداء من المعادلة الوطنية بدفعها "قسراً" إلى حالةٍ انفصالية، كما حدث في الشمال
وإنْ بغصّةٍ أقوى، من الضرورة بمكان توصيف الأزمة السورية بـ"مسرحيةِ القهر الهزلية". في كواليسها ثمّة مساوماتٌ ومناوراتٌ وألاعيبُ ومؤامراتٌ، أما على خشبة المسرح فرئيس نرجسي يرغي ويزبد بعنجهيته المعهودة، رافضاً تقديم أيّ تنازلاتٍ أو حتى رؤية للانخراط في أيّ عملية سياسية، حارقاً كلّ سفن الخلاص السوري. وخروجاً من سيل الافتراضات وذهاباً نحو أضعف الإيمان للتمسّك بقشة الخلاص التي ستغيّر معادلة الحكم من ملوك طوائف وأمراء حرب وأحزاب سياسية شمولية إلى حكمٍ وطني تعاقدي يشمل كلّ السوريين، علينا الجزم أنّ آخرَ الخطوات نحو القاع السحيق إخراجُ السويداء من المعادلة الوطنية بدفعها "قسراً" إلى حالةٍ انفصالية، كما حدث في الشمال، بينما المشهد السوري يسير ضمن سياق التجميد السياسي وتعزيز سيناريو "الخلافة الجغرافية"، فلثبات انتفاضة السويداء "على المدى الطويل" تراكمٌ حميدٌ لا بدّ سيُنتج نقاط تفاوض مصيرية، يلتقط الشارع السوري المحتقن من خلالها الفرصة التاريخية في تغيير المسار الإجباري الذي وُضع فيه، بعدما ظنّ الأسد أنّ حالة الأمر الواقع استتبّت له بعد انشغال العالم في الحرب الأوكرانية، ولاحقاً "طوفان الأقصى"، وبالتالي، تغيّر أجندة الأولويات الدولية، هو الذي يدرك جيداً أنّ جميع الأنظمة الديكتاتورية تسقُط، في نهاية المطاف، لأنها ببساطة عقلانية حكمت شعوبها بقوة الحديد والنار، ولم ترتدع بمنطق التاريخ أو تتّعظ بعبره.