تداعيات يوم صيفي

24 يوليو 2023
+ الخط -

أشعر بالامتنان الكبير لأبي السعيد، كهربائي السيارات البارع. سلمت يمناه وقد أعاد الحياة إلى مكيف سيارتي العجوز البائسة، بعد تعطّل طويل. صحيح أن فاتورته مرتفعة نسبيا، لكنه يستحقّ كل قرش بسبب إنجازه المهمّة التي ظننتها مستحيلة بعد جولاتي في ورش تصليح السيارات قبل أن أهتدي إليه، ما شجّعني على الخروج نهارا بعد اعتكاف طويل بسبب القيظ الشديد الذي يستهلك الطاقة، ويُفسد المزاج، ويثير الملل، ويدمّر العلاقات الإنسانية تحت عنوان "إنو الواحد مش طايق حاله". ولكن أين سوى "المول" وجهة آمنة من حرّ الصيف الفاجر هذا. أذهب إلى هناك في نهاية كل شهر لتسديد فواتير الهاتف والإنترنت والكهرباء والماء. حاول عثمان، أخي الأصغر، تعليمي كيفية الدفع "أون لاين". أعطاني درسا عمليا حين دفع فاتورة أمامي، مؤكّدا أن الأمر في غاية البساطة، وأنه يوفّر جهدا ووقتا كثيريْن، غير أني أخفقت في التعلم أو لعلي لم أشأ ذلك. أدرك أن معظم الناس يتّبعون هذه الطريقة العبقرية التي وفّرها التقدم التكنولوجي في سبيل راحة المستهلك، كي يحظى بمزيد من الكسل والبلادة، ما يفسّر خلو معارض شركات الاتصالات من الزبائن، باسثناء بضعة مسنّين يرون في مشاوير تسديد الفواتير وابتياع حاجات البيت فرصة للخروج ومخالطة الناس عن قرب، هربا من عزلة قسرية وجدوا أنفسهم أسرى لها بعد حياة طويلة حافلة بالعمل والإنجاز، قبل أن تخلفهم الحياة على الهامش منها. 
أقود سيارتي مبتهجة بالبرودة، أتعمّد إطالة الطريق نكاية في الحرّ، الشوارع مكتظة أكثر من المألوف، بسبب المغتربين الذين يقضون إجازة الصيف ويملأون المقاهي والمطاعم والأسواق، فرحين بلقاء أحبتهم متمتّعين بجوّ عمّان وباقي المدن الأردنية (إذا ما اسثنينا مدن الجنوب حيث الحرارة على أشدّها)، يهربون إلى عجلون والسلط وإربد. ويلوموننا حين نتذمّر من حالة الطقس، مؤكّدين لنا أننا في نعيم قياسا إلى دول الخليج. صحيح أن الوضع يختلف تماما في الليل، حين تقلّ درجات الحرارة إلى حد معقول، ويصبح السهر في الهواء الطلق ممكنا، ما يسبّب أزمات مرورية إلى ساعة متأخّرة. 
أعرّج على المقهى، حيث ألتقي صديقةً لا تقل ضجرا. يستقبلني النادل بابتسامة كبيرة، ويقول إنها تنتظرك. أتفادى النظر إلى قطع الجاتوه الشهية، المصفوفة بأناقة في البوفيه، وأغبط نفسي على" تناحة" مخّي وحرفيتي، حين أقرر اتّباع نظام غذائي صارم يحرّم السكر تماما. أعترف أن ذلك ليس بطولة مني، بل رضوخا لتعليمات الطبيب الذي أكّد اقترابي من الإصابة بمرض السكّري إذا ما واصلت استهتاري الغذائي. 
كانت الصديقة تغرز السكين في قطعة الجاتوه الشهية، فتندلق من جوفها الشوكولاته السائحة، ما يزيد من عذابي، وهي تتحدث بانطلاق، وأنا أشرب قهوتي السوداء شديدة المرارة. قالت ضاحكة ومتشفيةً إن لديهم "آيس كريم" شهيّاً جدّا... بلعت ريقي غيظا، وأخذت أشتم الصيف الحارّ ومحبّيه. قالت صديقتي المتفائلة، وهي من عشّاق الصيف، إنه أجمل الفصول على الإطلاق، حيث التحرّر من المعاطف الثقيلة والجوارب السميكة والارتجاف من بردٍ قارصٍ يقصّ العظم، ومن مدافئ الغاز والكهرباء التي تلتهم الميزانية بلا رأفة، ومن الحبس في البيوت. 
غادرتها في طريقي إلى المول، حيث التكييف عالي المستوى. سددت فواتيري وتجولت في أرجائه، أتأمل وجوه الناس وأكثرهم من المغتربين تستطيع تمييزهم بسهولة من شدّة بهجتهم في أيام قليلة تسمّى الإجازة، قبل أن يعودوا إلى اغترابهم وكدّهم وكفاحهم من أجل حياة أكثر راحة وأمنا واستقرارا، وهو حلم بات شبه مستحيل على المواطن الكادح محدود الدخل، وقد كُتبت عليه مصارعة الحياة في كل الفصول.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.