تجارة الثورات والزلازل
يمكن اعتبار الثورات والزلازل، بما يرافقهما من فوضى وضعف سلطة الدولة، فرصةً ذهبية للنّصب، والاحتيال، والتشليح، ومراكمة ثرواتٍ هائلةً في أرصدة المحتالين. في السابق، كان الاحتيال ذا صيغةٍ بسيطة؛ كما في الحكاية التي تُروى عن رجلٍ كان مسافراً مع زوجته وطفلته في سيارته الشاحنة الصغيرة (الهونداية)، ويحمل في الصندوق الخلفي بقرة. أوقفه راكبٌ ملهوف، وأبدى استعدادَه للركوب في الخلف، بجوار البقرة. وبعد مسافة أخرى، صعد رجلٌ آخر، بالطريقة ذاتها، وفي أثناء مسير الشاحنة، احتال الراكب الأول على الثاني، باعه البقرة، وقبض منه ثمنها، ثم طلب من السائق أن يُنزله، ونزل على أساس أن يستلم الثاني البقرة من السائق، وبعد فوات الأوان، عرف صاحبنا المغفّل أنه بلع المقلب.
في المجتمعات الغربية قصص كثيرة عن السرقات، ولكن تطوّر التكنولوجيا قلص السرقات، بالتدريج، إلى الحد الأدنى. منها أن لصّاً تمكّن من سرقة معطف فرو ثمين من "مول" ضخم، ولم تتمكّن أجهزة أمن المول من القبض عليه، وهذا ما أرّق صاحبَ المول، فأعلن، في إحدى الصحف، عن جائزةٍ كبيرةٍ تُدفع للسارق نفسه، مع إعفائه من مسؤولية السرقة، فيما لو ظهر وأوضح له كيف تمكّن من سرقتها، على الرغم من الاحتياطات الأمنية المشدّدة...
وبالفعل؛ جاء اللص، مع محاميه، لاستلام الجائزة، وشرح لصاحب "المول" طريقتَه المبتكرة في السرقة، وهي أنه اشترى من "المول" حقيبة جلدية. وفي غفلةٍ من أعين المراقبين، وضع المعطف في داخلها، وذهب إلى الصندوق، دفع ثمن الحقيبة، وخرج بسهولة.. كان هذا قبل أن يخترع العلماء الزّر الممغنط الذي يُرْبَط بكل سلعة، ويفقد مغناطيسه وحساسيّته في كوّة الدفع، وقد ربطوه بباب الخروج، فإذا خرج الزبون من دون أن يدفع، يزمّر جهاز الإنذار، ويهرع إليه رجال "السكيوريتي"، ويقبضون عليه، فيتبهدل، ويعود ليدفع صاغراً، وقد يُعاقَب قانوناً بعد ذلك.
ترافقَ تسليح الثورة السورية، في أواخر سنة 2011، مع ظهور مجموعاتٍ من المُشَلِّحين المختصين بخطف الرجال، وكانوا ينتقون زبائنهم من الأغنياء، وقد سمّيت تلك العملية "التَجْويل". كان الخاطفون يضعون مخطوفاً واحداً، أو اثنين، في الصندوق الخلفي للسيارة (الطَبُّون). حكى لي صديقٌ مرّ بتجربة الخطف أن جاره المحشور معه في "الطبّون" كان من النوع الجبان، الملحاح، فطفق يولول، ويئن، ويتشكى، ويقول: آخ يا أمي، ضاق نفسي، إنني أختنق، عظامي تتكسّر، فاضطر صديقي لأن يزجره، قائلاً: كرمى لله اسكت، صرعتني.. فتنمر، وشرع يشتمه، وبدأ يتضاربان داخل "الطبّون"!
عندما كثُرت عصابات الخاطفين، بدأ يظهر نوعٌ من التجارة، يتجلّى في أن يبيع الخاطف الأصلي رهينته لآخر، فتزداد الغرامة التي على الأهل دفعها، وهذا طبيعي، لأن المشتري لا بد أن يربح في الـ"البضاعة" التي اشتراها بحرّ ماله، وكان أحد رؤساء العصابات حقيراً إلى حدّ أنه كان، بعد أن يستلم النقود، وقبل يسلم الرجل لأهله، يطلق على قدمه طلقة، ويقول له: هذه للذكرى.
ولم يقتصر الأمر على تجارة الأشخاص، فقد تاجروا بالمازوت، والسيارات المسروقة، وأغطية منافذ تفتيش المجرور، والنحاس المأخوذ من أسلاك الكهرباء، ثم فُتح باب الإغاثة، وصار متعهّدو الإغاثة يأتون بأشخاصٍ منكوبين، يصوّرونهم، ويسلمونهم بعض المواد، ويرسلون الصور إلى الداعم، كي يطمئن قلبه، ويشفطون الباقي، وحينما بدأت تتشكّل هيئات ومؤسّسات ثورية، أو معارِضة، ترك بعض الناس الذين كانوا يعملون عند "النظام" أعمالهم، والتحقوا بهذه المؤسّسات، وبلغ كثيرون منهم مستوياتٍ متقدّمة من الثراء، من فرط ما اختلسوا من أموال..
في كل الأحوال، وكل المجالات، يوجد أناسٌ صادقون، شرفاء، يقدّمون ما لديهم، ويضحّون بما يملكون، ويوجد، في المقابل، النصّابون والمشلّحون. وإذا دققت بما يحصل الآن، بعد الزلازل الرهيبة التي تعرّض لها أهلُنا، المنكوبون أساساً، لوجدتَه يسير على ضوء السيناريوهات السابقة، وبالأخص سيناريوهات الإغاثة.