تبدّل "قواعد الاشتباك" الإسرائيلية
لم يخطئ من اعتبر أن ما قبل 7 أكتوبر غير ما بعده، فواحدةٌ من المتغيّرات المنبثقة من هذا التاريخ تبدّل "قواعد الاشتباك" الإسرائيلية، سواء في داخل المجتمع الإسرائيلي أو خارجه. مسألة "الاكتراث" الإسرائيلي بجثّة إسرائيلي واحد، يهودي الجنسية، لم تعد أولوية. يكفي أنه منذ سنوات قليلة كان شغل الاحتلال الشاغل معرفة مكان (ومصير) الطيّار رون أراد، الذي سقطت طائرته الحربية في الجنوب اللبناني في 1986، ولم يعد يُعرف عنه شيء. انتقل الاحتلال من السعي إلى معرفة مصير أراد، وأيضاً إعادة جثمان إيلي كوهين، رجل الموساد في دمشق، إلى رفع لواء بروتوكول هانيبال الذي يسمح بقتل الجيش الإسرائيلي جنوده المأسورين في حال فشلت محاولة إنقاذهم.
قاعدة اشتباك أخرى تغيّرت: الاهتمام الزائد بالاقتصاد الإسرائيلي. لم يعد الإسرائيليون يولون هذا الأمر اهتماماً بالغاً، بل أظهروا استعدادهم للاستمرار في ارتكاب المجازر في قطاع غزّة، مهما طال الزمن. الأولوية لديهم عسكرية. المال يأتي لاحقاً. موضوع آخر تخطّاه الاحتلال: القتال على عدّة جبهات. لم يعُد الإسرائيليون يخشون القتال المتعدّد الجبهات. يعلمون أن في ذلك انتحاراً في حال كانوا بمفردهم، لكنهم واثقون من عدم نيّتهم الانتحار، فضلاً عن أنهم ليسوا وحدهم، لا في الغرب الذي كرّر مراراً دعمه لها، ولا في الشرق، تحديداً لجهة الصين وروسيا، اللتيْن لن تطلبا يوماً إزالة إسرائيل من الوجود.
من القواعد المتغيرة تلك المرتبطة بلبنان. في السابق، كان شبه معلومٍ أن التهديدات الإسرائيلية في زمن ما قبل 7 أكتوبر تعني أن لا شيء سيحصل. في بيروت، كان جلياً أن الاطمئنان من عدم وقوع اعتداءات على لبنان ينبع من مدى قوة التهديدات الإسرائيلية على مقياس "ديسبيل"، وكلما تلاشت التهديدات ترتفع مؤشّرات الحرب، وكلما علا صراخ الاحتلال خفّ منسوب القتال. بعد 7 أكتوبر، دخل الاحتلال مرحلة أخرى مع لبنان: الإدلاء بتصريحاتٍ متناقضةٍ على المستويات السياسية والرسمية والإعلامية، وإظهار أن هناك خلافات عميقة بشأن شنّ حرب لبنان، بما يجعل اللبنانيين حائرين. وبطبيعة الحال هو السؤال اليومي في البلاد: هل ستقع الحرب أم لا؟ والأدهى أن لبنان الرسمي، بحكومته ومجلس نوابه وبغياب رئيس جمهوريته، لا يعلم ذلك. أما حزب الله فلا يجزم أيضاً بحتمية الحرب من عدمها.
القاعدة الأهم التي تبدّلت من كل قواعد الاشتباك العلاقة الإسرائيلية بالولايات المتحدة. صحيحٌ أن الأميركيين لا يكتفون فقط بالاصطفاف إلى جانب الإسرائيليين، بل يزوّدونها بالسلاح والذخائر، ويساندون مواقفها السياسية وإعلاناتها العسكرية، مع تمايزٍ طفيفٍ في واشنطن لساكن البيت الأبيض، مراعاة لظروفه الانتخابية في الاستحقاق الرئاسي. يُقال أحياناً إن الأميركيين يقودون العدوان على غزّة، إلا أن الواقع مختلف قليلاً بعض الشيء. يحبّ الأميركيون القوة، ويحبّون الشعور بها، والإيحاء بقدرتهم على أداء دور الشريف في أفلام "الويسترن". لذلك يدوزنون مواقفهم السياسية، بناء على الحراك الإسرائيلي الميداني، فيحافظون على ريادتهم. مع العلم أنه لو أراد الأميركي فعلاً وقف القتال، يكفي أن يمتنع عن إرسال شحنة سلاحٍ إلى تل أبيب.
وتبقى قاعدة الاشتباك الأهم التي تبدّلت. هي في الواقع ثابتة، لكنها أضحت أكثر فجاجة بعد 7 أكتوبر. يرفض الإسرائيلي قيام دولة فلسطينية حقيقية، وما كان يدور همساً في أروقة الشرق الأوسط قبل خمسة أشهر أضحى معروفاً في العالم في هذا السياق.
تغيّرت هذه القواعد في إسرائيل، ولم يعد الاحتلال يخجل من الجهر بها. وبالنسبة إليه، على العالم التعامل معه وفق شروطه، سواء كان يُدعى هذا العالم الأمم المتحدة، أو كان شخصاً على مرمى حجر من مواقع الاحتلال. وإذا كنّا في الشرق الأوسط نعلم حقيقة الإسرائيليين بالأصل، فإن العالم الذي صُدم بهم لا يزال متفاجئاً من أن هناك "شعباً فلسطينياً" على هذه الأرض.