بُناة الملاجئ

27 اغسطس 2022

(نجيب بلخوجة)

+ الخط -

قبل سنوات، كان استثناء أن نقرأ أو نشاهد شخصاً يبني ملجأً، في الولايات المتحدة خصوصاً، ويتحدّث عن نهاية عالم ما، بحسب نظرته المبنية على أفكار دينية أو غيرها. وكان بعضهم يسمح لوسائل إعلام محلية، على نطاق ولايات أو مقاطعات ضمن الولايات، بالاطلاع على ما يحتويه ملجؤه. لاحقاً، باتت تنتشر فكرة بناء ملاجئ للأغنياء على "يوتيوب"، مرفقة بدعوات إلى الجميع، لأن "الكارثة على الباب". وقبل تفشّي وباء كورونا، صارت مشاهدة هذه المقاطع بمثابة متنفس لتغيير أجواء ما، وبشكل أوضح، عُدّت تلك المشاهدات بديلاً عن أفلام ترفيهية أو مسلسلات تسبق ساعة النوم، غير أن الصور والتحقيقات التي رافقت مراحل تفشّي كورونا، والإغلاقات الكبرى، وتحوّل ما كان يسوّق في الأفلام عن مدن قاحلة وفارغة من سكّانها، أعادت بعض الشيء التذكير بأصحاب الملاجئ في أميركا.

بعدها، وعلى الرغم من الحروب الإقليمية في العالم، لم يكن أحدٌ في المجمل يكترث بأهمية امتلاك ملجأ أو التحدّث عنه. ربما لأن الموروث الجماعي متصلٌ حكماً بالحرب الباردة بين الأميركيين والسوفييت، التي دامت بين عامي 1947 و1991. حينها كان الرعب النووي يغزو العالم، ولأسبابٍ منطقية، بسبب توسّع مناطق التشابك بين القوتين العظميين في مختلف أقاليم الكوكب، فضلاً عن أن بعض الأحداث كادت تؤدي فعلاً إلى حربٍ عالمية نووية، لولا خط أحمر من هنا، ومصادفة إنسانية من هناك، واتصال سياسي من مكان آخر. لكن الوضع كان محفوفا بالمخاطر بشكل عام. ومع هبوب "رياح التغيير" في الشرق الأوروبي وصولاً إلى موسكو، تنفس العالم الصعداء، من دون الاهتمام، لا بالوقائع السياسية الناجمة عن هذا التغيير ولا سلبياته وإيجابياته.

اليوم عاد الاستنفار مع أبناء وأحفاد من عاشوا الخوف في العقود الماضية، انطلاقاً من المخاوف التي نشأت على خلفية تهديد محطة تشرنوبيل الأوكرانية في الربيع الماضي، في الغزو الروسي لأوكرانيا، ثم بالتهديد بكارثةٍ كبرى قد تحدُث في محطة زابوريجيا للطاقة النووية، الواقعة في الوسط الأوكراني، والتي تحوّلت إلى ساحة قتال بين الروس والأوكرانيين.

وعدا ذلك، رفعت روسيا من سقف تحدّيها العسكري ملوّحةً باستخدام السلاح النووي في "حال كانت مهدّدة فعلاً". وباتت عبارة الرئيس الروسي بوتين "لماذا نحتاج هذا العالم إذا لم تكن روسيا موجودة فيه؟" شعاراً لغوّاصات روسية تجوب المحيط الهادئ. وبالإضافة إلى الروس، يدفع التوتر المتصاعد بين الصين والولايات المتحدة باتجاه عالم غير مستقر، وكأن الجميع بدأ يصل إلى طريق مسدود، لا يمكن الخروج منه من دون حرب. هنا يمكن لأصحاب الملاجئ أن يعيشوا "مجدهم"، في سياق "صدقية توقعهم" بضرورة بناء ملاذاتٍ آمنةٍ تقي من الحروب النووية.

ولكن ما الذي يعنيه ذلك على المستويين الفردي والمجتمعي؟ الإنسان بطبيعته باشر حياته من الكهوف، التي كانت محيطاً آمناً في طبيعة غير مكتشفة ويهابها. هذا الإنسان، حين تشتد الضغوط عليه، فردياً أو جماعياً، يبحث عن الانطواء في أماكن يعتبرها آمنة له، وتتبدّل أولوياته من السعي إلى تحقيق طموح ما إلى محاولة البقاء على قيد الحياة وفقاً لغريزةٍ ينساق إليها اضطراراً لا بوعيه الكامل. ويتحوّل من كائن يحيا على وقع تحقيق ما يشاء في مهنته وفي حياته الاجتماعية إلى كائن يعمل على "توعية" محيطه بضرورة الانزواء في محيطٍ آمن، وبالأخص في أماكن تحت الأرض.

في العادة، يكثر في أيام المحن باعة الأفكار المبنية على الخوف والمجهول والغموض، وتنتشر، في المقابل، الفئات القوية الساعية للاستحواذ على كل ما تيسّر من موارد بالعنف والقوة. وهنا، تقف الغالبية البشرية بين الفئتين عاجزةً عن التفكير بما هو لصالحها، مع يقينها أن كل شيء تجاوزها، وأن الأنسب حماية رأسها لتمرير المرحلة بأقل قدر من الخسائر. وفي هذا التوقف انتظار أكثر سوءاً من الجماد.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".