بين وعي الحرية وضرورة الخبز
مع كلّ يوم جديد في عمر الأزمة السورية، خصوصا أيام شهر رمضان، يعود سؤال الفقر وخطّه المتحوّل بالنسبة إلى الشعب السوري، وخط الفقر هو المستوى الأدنى من الدخل الذي يحتاجه الفرد ليتمكّن من توفير مستوى معيشةٍ في بلدٍ ما، وهو أعلى في الدول المتقدّمة منه في الدول النامية، ولقد اعتمد رقم معين، قابل للتغيير بحسب تغير الأسعار والفروقات التي تحصل، إذ ارتفع الرقم في العام الفائت إلى 2,15 دولار في اليوم للفرد الواحد، ما يعني دخلًا شهريًّا يساوي 64،5 دولاراً، للفرد وليس للأسرة. ولكن إذا نظرنا إلى الرواتب والأجور في سورية، فإنها وسطيًّا بحدود 150 ألف ليرة سورية للموظف الجامعي، ما يعادل 20 دولارًا في الشهر، وهو راتب المعيل في الأسرة، فلو كان الأب والأم عاملَيْن بشهادتيهما الجامعيتين، فإن دخل الأسرة سيرتفع إلى 40 دولارًا، ليبقى أقل من الرقم المعتمد عالميًّا للفرد الواحد، فهل يمكن الحديث عن خط فقر في سورية، أم أنها صارت خارج التصنيف؟ أمرٌ مريعٌ أن يكون شعبٌ، بغالبيته الساحقة، تخطت نسبة الفقراء فيه 90%، وهذا ما يقوله علانية المسؤولون في تصريحاتهم العلنية، جديدها أخيرا ما أدلى به رئيس جمعية حماية المستهلك في دمشق، عبد العزيز معقالي، لصحيفة الوطن، أن هناك انخفاضًا ملحوظًا في الطلب على المواد والحركة في عدد من أسواق العاصمة دمشق، مقارنة مع السنوات السابقة، لأسبابٍ عزاها كثر إلى انخفاض القدرة الشرائية والارتفاع الكبير لأسعار المواد الغذائية والحلويات، والتي لم تعد بمقدور مواطنين عديدين، حتى أصبحت أقلّ طبخة خلال رمضان تكلف ما لا يقل عن مائة ألف ليرة سورية.
وبالرجوع إلى لغة الأرقام، الطبخة التي تكلّف مائة ألف ليرة سورية، تحتاج الأسرة في طعامها لوجبة إفطار خلال شهر رمضان إلى ثلاثة ملايين ليرة في الشهر، ما يعادل 400 دولار، فكيف لعقلٍ إنساني أن يحلّ هذا اللغز؟ أو هذه المعادلة؟ ما السبيل إلى الإجابة عن سؤال: كيف يعيش الفرد السوري، ومن أين يحصل على المال لسدّ رمقه، من دون التفكير بمعايير الاحتياجات الأخرى الثمانية التي وُضعت لتحديد "الفقر المطلق" أو المُدقع باللغة الأدبية؟ منها المأكل والملبس ومياه الشرب النظيفة، والصرف الصحي والتعليم والطبابة، ومنها أيضًا معيارٌ يعدّ تافهًا بالنسبة إلى أنظمة القمع والاستبداد، وهو حقّ وإمكانية الوصول إلى المعلومات في الصحف، الراديو، التلفزيون، الإنترنت، والحواسيب والهواتف؟
أعداد باتت في ازديادٍ تقتات على بقايا الأسواق في آخر النهار، ومنهم من يتسوّلون، منهم من ينتظرون مساعدة فاعلي الخير أو الجمعيات الأهلية
بات من المعروف أن شريحة كبيرة من هذه النسبة، الـ90% الفقيرة، تعيش على المساعدات والحوالات من الخارج، وليس كل السوريين في الخارج في وضع مالي مقتدر كي يؤمّنوا لذويهم وأقربائهم أو للمحتاجين ممن هم في الداخل ما يُسندهم في الحياة، لكنهم يتقاسمون اللقمة معهم، وهناك أعداد باتت في ازديادٍ تقتات على بقايا الأسواق في آخر النهار، ومنهم من يتسوّلون، منهم من ينتظرون مساعدة فاعلي الخير أو الجمعيات الأهلية. وهناك عديد من طرق العيش المشابهة تحت ضغط الحاجة والاضطرار، من دون أن يكون من بينها إلّا القليل المتاح لأن يبدأ الفرد بعملٍ يؤمّن له اللقمة.
لا مبرّر للدخول في التفاصيل أكثر، لكن هل ما زال الفرد السوري قادرًا على وعي ذاته، في ظلّ هذه الحياة القاسية، أن يسأل نفسه: من أنا، وما أنا، وبالتالي أن يستعيد مفهوم الإرادة وضرورة الحرية؟ بعد أكثر من 12 سنة على الحراك الشعبي، مورست خلالها بحقّ الشعب حربٌ بأسلحة متنوّعة وتدخلات خارجية ودعم للنظام وخصومه، وحرب بطيئة مواكبة لها، حرب يوميّة كانت تشتعل ببطء، استُخدمت فيها كل أدوات القهر والذلّ والتجويع، والتردّي المريع في حياة الأفراد والمجتمعات، أين موقع الحرية في طلبات الشعب، وفي أي مستوىً من أهدافه وأحلامه؟ هل استطاع الفرد السوري الانعتاق من التبعيات، أو الارتباط العضوي بأيديولوجيا أو عقيدة ما خلال مسيرة التطهير الفادحة التي مرّ بها خلال هذه السنوات؟ أم ازداد ارتباطًا، وازداد عدد القيود التي ارتهن إليها بعد مسيرة الدم هذه، كقيد الطائفة أو المذهب أو القبيلة أو القومية أو غيرها؟ وماذا يفعل الإفقار والتجويع والقمع والترهيب، إذا ما طُبّقت على مجموعة بشرية بالطريقة التي مورست بها على الشعب السوري؟ وهل وصلنا فعلًا إلى خلاصة ما قال إريك فروم: عبر التبعية التامّة والمطلقة، يفقد الفرد الخاصيّة الأساسيّة للحياة، الحريّة؟
اللهاث خلف سبل البقاء على قيد الحياة فقط، من دون مكان لحلم آخر، هو ما يستولي على تفكير السوريين
ما زالت هناك شرائح كثيرة من الشعب السوري تنادي طالبةً الحرية، وتُعلي الصوت، وهذا مطلبٌ مشروع وملحّ وأساسي، فهل ترسّخ مفهوم الحرية ضرورة إنسانية، فردية وجمعيّة، لديهم خلال هذه المسيرة الدامية؟ مجرّد الاطلاع على "التبعيات" التي تفاقمت في هذه السنوات، وفي كل المناطق، يجعل المراقب يشعر بالإحباط، بالرغم من أن فهم هذه الحال ضروري، فازدياد الضغط السياسي والاجتماعي والحياتي على الأفراد يدفع الإنسان إلى مستويات خفيضة من الوعي والثقة بالنفس والقدرة على إبداع أي شيءٍ في حياته، إنه يحوّله إلى كائنٍ لا يدرك ذاته ولا اختلافه، بل يشيح بوجهه عن هذا الاختلاف، ويُشعره بالأمان أن يكون رقمًا من مجموع، أو فردًا في قطيعٍ بشري، فكيف بضغط الخبز وقد أصبح الوسيلة الوحيدة تقريبًا للبقاء في الحياة؟
ما وقع على الشعب السوري خلال العشرية الماضية أمرٌ جلل، ومقولة إن حاجز الخوف قد تحطّم منذ انطلاق الانتفاضة الشعبية، ربّما صار اليوم بحاجةٍ إلى إعادة النظر فيه، فالخوف تسلّل مرة أخرى إلى النفوس، بما يمارس النظام وتمارسه سلطات الأمر الواقع أيضًا، من قمع وملاحقة ومحاصرة الحريات، جعل الخوف يستوطن النفوس مرّة أخرى، خصوصا أن ذاكرة الدم والعنف لم تخفُت نارها بعد، والتجربة القاتلة والمدمّرة ما زالت تهزّ نفوس السوريين، ويدفعون ثمنها، وأنّ اللهاث خلف سبل البقاء على قيد الحياة فقط، من دون مكان لحلم آخر، هو ما يستولي على تفكيرهم، فلا يبقى لديهم مكانٌ للتفكير في هذه السنوات المارقة تفكيرًا نقديًا من أجل تجاوز الأخطاء الكارثية التي بدّدت انتفاضتهم وأحلامهم وحياتهم. وها هو العالم يعيد ترتيب أولوياته، من دول عربية وإقليمية ودولية، ويفتح أبوابًا على حلول، يبدو الشعب خارجها، وهو خارجها بالفعل، منشغلًا بلقمته ليس أكثر، ولا يعنيه بعد ذلك ما يحصل وكيف يحصل، المهم أن يخرُج من عنق الزجاجة الخانق.
في سؤال عن مسلسلات رمضان، على صفحة إحدى الشبكات المحلية، وأيها أعجبك أكثر، جاءت غالبية الردود بصيغة سخرية مرّة، فكثير قال مسلسل قطع الكهرباء، وأحد التعليقات يقول: أبشع مسلسل مكسيكي هو الاستمرار في فقدان مقوّمات الحياة والتجويع الجائر. وآخر يقول: مسلسل البصل، ومسلسل السلّة رقم 99. أمّا التعليق القائل: في هداك المسلسل اللي ماحدا عميسترجي (يجرؤ) يتفرّج عليه، أحلا شي... واضح أن المقصود هنا مسلسل "ابتسم أيّها الجنرال". هذا ما يلخّص ببساطة سؤال: الحرية والخبز. كيف تتحقّق الحرية لدى أفرادٍ يستهلكهم تأمين عناصر وجودهم البيولوجي؟