بين محمّد الدرّة ومحمّد التميمي
بين الطفلين اللذين قتلهما الاحتلال بدم بارد، محمّد الدرّة في غزة، قبل 23 عاماً، ومحمّد التميمي في رام الله قبل أسبوع، مشتركات كثيرة، جمعت بين المحمّدين، الصغير والأصغر، وهناك أيضاً فوارق أكثر باعدت بين هاتين الضحيتين، اللتين أحسب أنهما باتتا ترمزان معاً إلى ما آل إليه وضع الشعب الفلسطيني، أخيراً، تحت عنف أطول احتلال في هذا العصر، ولا سيما بعدما تولّت الفاشية الصهيونية مقاليد الحكم في الدولة العبرية، وفعّلت شعار "العربي الجيد هو العربي الميّت" بكل ما لدى هذه الطغمة البغيضة من كراهية عنصرية، ومن فائض قوّة عسكرية متغطرسة، حيث أودت وحداتها المدرّبة على حرفة القنص عن بُعد بحيوات 28 طفلاً في القدس والضفة الغربية وقطاع غزّة خلال العام الحالي، والحبل على الجرار.
في إطار المشتركات بين محمّد ومحمّد، ابن آل الدرة وابن دار التميمي، وكل منهما فاضت روحه في حضن أبيه أمام الكاميرات وفي وضح النهار، ليس الاسم وحده على ما فيه من دلالة قوية لا تسقُط من البال، ولا عنصر الطفولة البريئة بالطبع، أو الهوية والدم والتراب، أو غير ذلك من السمات المتشابهة حد التطابق بين الصغيرين المغدوريْن، وإنما فوق ذلك كله هوية القنّاص صاحب اليد الخفيفة على الزناد، صورة القاتل المعربد في الضفة والقطاع، المدجّج بالسلاح والأحقاد والخرافات، المحميّ من كل مساءلة أو عقاب، المسكوت عن جرائمه اليومية المروّعة، بصفته محارباً ضد الإرهاب، يمارس حق الدفاع "المشروع" عن النفس، يذود عن حياض الديمقراطية الوحيدة في قلب هذه الصحراء المسكونة بالاستبداد والفساد، ويقاتل ضد الأشرار والأوغاد وأعداء السلام، حتى وان لم يبلغ الولد أو البنت سن الفطام.
أما الفوارق الفارقة بين الطفلين الشهيدين، اللذين لا يدركان معنى الشهادة والاستشهاد، فهي ماثلةٌ بكل جلاء في عنصر الزمان، الذي يبدو وكأنه مدة أطول من فترة نحو ربع قرن، الفاصلة بين الواقعتين الطافحتين بالدم الحارّ، وكل طفل ذو دمٍ حارّ، حيث شهدت هذه المدّة تطوراتٍ عصفت بالوضع الفلسطيني، وكادت تقلبه رأساً على عقب، كما توالت على أهل المحمّدين (الدرّة والتميمي) نوائب شداد يضيق بذكرها المقام، الكثير منها صنعه المحتلون عن سابق قصد، فيما القليل من هذه النوائب كان من صنع أهل الدار، الذين ضاعفوا، بانقساماتهم، من حدّة التحوّلات غير المواتية، التي جرت في حاضنتهم العربية، كان أولها انسحاب النظام العربي من دائرة الصراع مع إسرائيل، فيما جديدها ما عُرفت باسم "الاتفاقيات الابراهيمية".
ولعل بيت القصيد في هذه المطالعة شاخصٌ في كل تلك المتغيّرات المتواترة على الصعيد الفلسطيني بين نشوب الانتفاضة الثانية عام 2000 ونشوء ظاهرة العمليات الفردية، وبعدها ظاهرة الكتائب المسلحة في شمالي الضفة الغربية، وفي مقدّمتها عرين الأسود في نابلس، حيث أنهكت الانتفاضة المسلحة الأوضاع الفلسطينية بالجملة والمفرّق، وقوّضت جلّ المكتسبات الكيانية المتحقّقة، ليقع بعد ذلك الانقلاب على السلطة الوطنية في غزّة، ويخلق معه نكبة في قلب النكبة، وتتلاحق من ثمّة ظواهر سلبية لا حصر لها، راح الاحتلال يرعاها ويعمل على تعميقها، فيما كان يواصل اعتداءاته الوحشية على القطاع المحاصَر، ويحوّله إلى أكبر سجن مقام في الهواء الطلق، لينجز في إثر ذلك كله هدف تحييد سلطة الأمر الواقع في غزّة عن المعارك التي استهدف بها "الجهاد الإسلامي" حصراً.
وقد تكون أهم التحوّلات التي جرت بين واقعتي استشهاد الطفلين، المتزامنة مع المتغيّرات الفلسطينية المحزنة، ظهور جيل عربي لا يرى في إسرائيل عدواً وغير مكترث بما يحدث للفلسطينيين من مصائب يومية متنقلة، على العكس تماماً من الأجيال التي كانت تملأ الشوارع مظاهراتٍ غاضبة كلما توحّش الاحتلال في انتهاكاته اليومية، وارتكب المجازر ضد المدافعين عن القدس والمسجد الأقصى، ربما بفعل الملل من طول أمد القضية المستعصية على الحل، وربما أيضاً جرّاء ما شاهده العرب من ترهّل وسوء أداء فلسطيني شامل، بلغ حد تبادل الاتهامات بالكفر والتفريط، بل وإدارة بعضهم ظهره للآخر، على نحو ما جرى في الاعتداءات الثلاثة، والتي استهدفت، أخيرا، فصيلاً دون آخر، وتركه يقاتل وحيداً من دون سند.
وهكذا، يبدو عامل الزمن المحبط الكئيب، بما ينطوي عليه من متغيّرات، وما يفيض عنه من تحوّلات، هو الفارق النوعي المذهل بين زمن استشهاد كل من الطفلين البريئين.