بين حرية الإجهاض في فرنسا والإجهاض القسري في غزّة
ولأن غزّة هي وجع القلب، وميزان الضمير، ولأنها ألقيت في بازار السياسة والمصالح لعالم الأقوياء الفاجر، فإن كل حدث في العالم يحيل إليها، فما أكثر القرائن التي تدلّ على أن كل الشرائع الدولية والقوانين والمبادئ والنظريات، التي وُضعت لا ترقى إلى النزاهة المفترضة، وما هي إلّا أحجار فوق رقعة اللعب بمصائر الشعوب وصولاً إلى السيطرة، حتى لو كان الثمن إبادة مئات الآلاف من الأرواح التي أول حقوقها حقّ الحياة.
تُدرج فرنسا الحق في الإجهاض في دستورها. خبر يثير صخباً واهتماماً عالميين، أقلّه في الغرب وأميركا، فهذا أمر مطروح للنقاش وقضية تحتاج إلى حلول، ولكل بلد قوانينه وتحفّظاته تجاهها. وكما في باقي الدول، هناك اختلاف في مواقف الدول العربية تجاه الإجهاض، واختلافات في هامش المسموح به، فالثقافة المجتمعية لدى شعوبنا تتأثر أكثر ما تتأثر بالدين والأعراف والموروث الثقافي، ويجري التعامل مع الإجهاض في الواقع بطرائق مختلفة، وبسبب سطوة الثقافة السائدة والدين والأعراف، وبسبب الجهل وإجحاف بعض القوانين بحقّ المرأة، خصوصاً إذا ما تم الاعتداء عليها أو اغتصابها، وبسبب الإعدام الفعلي من ذويها أو أقربائها غسلاً للعار، أو الإعدام الاجتماعي بحقها فيما لو أنجبت طفلًا خارج مؤسسة الزواج، فإن وجود ما اتفق على تسميتهم، اجتماعيّاً، باللقطاء، وهم حديثو الولادة بعمر ساعات أو ربما أيام معدودة، أمر شائع في بلداننا. وقد تلجأ كثيراتٌ إلى طرائق بدائية للإجهاض، تؤدّي هذه الطرق غير الآمنة والأدوات غير المعقّمة إلى وفاة النساء أحيانًا. أمّا الإجهاض غير القانوني على يد الأطباء، أي ما يتم إجراؤه في حالاتٍ لا يقرّها القانون، فهو شائع أيضاً، ولا من يسأل إلّا إذا وقعت مشكلة صحّية بحق المرأة التي تُجرى لها عملية الإجهاض، حتى في هذه الحالة فإن المساءلة القانونية وتطبيق العقوبة المناسبة عرضة للمساومة أيضاً في ظل الفساد المستشري، وإمكانية دفع الرشى لأي طرف من الأطراف المعنية بهذه الواقعة. ربما تُستثنى تونس من قوانين الإجهاض المتقاربة في فحواها وشروطها القانونية في غالبية الدول العربية، فلديها منذ 1973 قوانين مدنية بالنسبة للمرأة وحقوقها.
في فرنسا والغرب، تصان الحرية الفردية، بينما تقتل حرية شعب بكامله في تقرير مصيره والتعبير عن قضيته العادلة
فرنسا التي صدّرت للعالم مبادئ ثورتها العظيمة، ورسّخت شعاراً يحمل ثلاثة مبادئ أساسية "الحرية والمساواة والإخاء"، تناقض شعاراتها في موقفها "تاريخيّاً" من احتلال إسرائيل فلسطين، ووقفت مساندة لها منذ اليوم الأول للعدوان الحالي، حتى لو أنها بدأت تخفّف من بعض تشدّدها ومواقفها أخيراً، إنما القيم الإنسانية وقيم الثورة الفرنسية في الحرية والمساواة والعدالة تضع فرنسا في موضع المساءلة أمام واجباتها الإنسانية تجاه الشعوب وحقوقها المشروعة، خصوصاً وأنها دولة مؤثرة عالميّاً، وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي.
هل المرأة الفرنسية مخلوقة من ترابٍ آخر غير تراب المرأة الفلسطينية، وفي غزّة الآن، حيث تدفع الثمن الأبهظ؟ لقد منح القانون الفرنسي الجديد حرّية الإرادة للمرأة الفرنسية، حرّيتها في التعامل مع قضايا جسدها، وأن تكون المسؤولة الوحيدة عنه، لكن المرأة في غزّة مسلوبة الإرادة حتى في إرضاع طفلها، منتهكة الحق حتى في ولادة كريمة. فأين المساواة وأين الإخاء؟
في فرنسا، التي أعطت المرأة هذا الحق، توفّر للحامل والولادة والوليد كل مستلزمات العناية الصحية والغذائية والاجتماعية، وتضمن حقوقهم، المرأة الحامل تخضع لمراقبة حملها في مراكز صحية متطورة، تجري ولادتها في المستشفيات وتحت العناية الطبية والتمريضية الفائقة، تتلقف وليدها بأيدٍ رحيمة متمرّنة، تؤمن له الدفء والغذاء والمراقبة الطبية، والحواضن فيما لو كان يحتاج، حاضنة فائقة الدقة والمراقبة لكل خديج أو وليد يعاني، بينما يموت الخدّج في مشافي غزّة، على مرأى فرنسا والعالم، يوضع في الحاضنة الواحدة، فيما لو توفّرت، عدة مولودين أو خدّج، واليوم يموت الأطفال بسبب الجوع، وتوزّع وجبة الحليب الواحدة، فيما لو توفرت على ثلاثة أطفال وربما أكثر، ثم تتلقفه الأمراض، فيما لو كتبت له الحياة، ويعيش بلا لقاحات ولا أدوية ولا مدارس ولا لعب ولا دفء، ولا طعام ولا أحلام، فأي جيل سينمو ويصبح قادرًا على الحياة المنتجة والكريمة؟
الإجهاض القسري يمارس بكل عنجهية ووحشية في غزّة، والعالم لا يأبه
في فرنسا والغرب، تصان الحرّية الفردية، بينما تقتل حرية شعب بكامله في تقرير مصيره والتعبير عن قضيته العادلة، وتقتل على المستوى الفردي كل إرادة أو طموح أو حلم... تبيح فرنسا للمرأة الإجهاض إذا لم ترغب بحملها، بينما في غزّة تجهض الحامل قسريّاً بتهديد حياتها، بالقتل تحت نيران الاحتلال، وتجهض مرّة أخرى بعد الولادة، هل سمع العالم بإجهاض يحصل بعد الولادة؟ بعد أن يصرخ الوليد صرخته الأولى؟ نعم، هذا ما يحصُل في غزّة، ويحصُل أن يُلفّ بعدها الوليد بكفن أبيض ويحزّم بلاصق طبي، ثم تمتدّ إليه يد مرصودة للرحمة، لتوثق اسمه، بقلم أسود، بين المغدورين أمام عيون العالم، ويدفن غالباً في مقابر جماعية، فلا وقت ولا أمن لفلسطينية أو فلسطيني كي يدفن جثامين أحبّائه كما يليق، حتى في حالة الموت "الحقّ"، فيما لو ترك القتل الهمجي مكاناً للموت الحق في غزّة.
في غزّة يُجهض قلب الأم، ويكسر، يخطف الموت الغاشم وليدها وأحلامها وأمومتها، ويجفّ حليبها في ثدي كان يعاند الجوع فيعتصر جذوة الحياة من فؤاد أم من حقّها أن تعيش مثل أي أم في العالم، بل مثل أي مخلوقٍ على وجه الأرض، ويقدّمه لوليد من حقّه الحياة أيضاً، هذا هو قانون الكون. لكن الإجهاض القسري يمارس بكل عنجهية ووحشية في غزّة، والعالم لا يأبه، بل يصدّر الخطابات الإعلامية والدبلوماسية، ترتفع حدّتها ويرتفع سقف مطالبها من إسرائيل، بحسب المناسبات، كما يجري اليوم في أميركا المقبلة على انتخاباتٍ رئاسية، لكن التاريخ يحتفظ بالحقيقة الوقحة، حقيقة أن أي إدارة أميركية تأتي، وأي رئيس يتبوّأ منصب الرئاسة فيها، ستكون إسرائيل ودعمها أمرًا بديهيًا ومهمًا له، ومخزون السلاح الذي يقتل الفلسطينيين لا ينضب، ما دام ان هناك في أميركا من يرسل السلاح، وهناك لوبي صهيوني نشط، بينما، وللأسف والخزي، لا يستطيع العرب أن يشكّلوا أي جماعة ضغطٍ حيث يوجدون، فخلافاتهم يحملونها معهم، حول كل ما يجري في بلدانهم، وفي فلسطين.
بينما المرأة والأم والطفل يقتلون، وهم خارج مظلّة المبادئ الإنسانية للثورة الفرنسية، وهذا العالم يكيل بمكيالين.