بين ترف الموت الرحيم وجبروت حياة ظالمة

14 يوليو 2023
+ الخط -

هل هناك موت رحيم وموت ظالم، أو جائر، أو عنيف، أو غيرها من المفردات التي تصف جبروت الموت؟... لا توجد ضرورة لتعريف الموت علميًّا، لكن من الطبيعي الاعتراف بأننا لا نملك خبرة عن الموت، وأنه اللغز الأصعب والأكثر إقلاقًا للنفس البشرية، منذ وعى الإنسان ذاته، ولا بدّ من التوقف أمام حالة الموت المستشري بلا رحمة ولا رادع بحقّ شعوب أو جماعات في العالم، خصوصا إذا ما قارنّا بينه وبين مفهوم "الموت الرحيم" الذي يشغل الرأي العام في دول عديدة، أوروبية، وفي أميركا وكندا وأستراليا، انطلاقًا من حق الفرد في استقلاليته، وحريته في اتخاذ قراراته، حتى قرار موته، والسجال المستمر في السنوات الأخيرة يدور حول أي مدى يحقّ للإنسان أن يقرّر إنهاء حياته؟

يناقش البرلمان الألماني مشروع قرار بشأن هذا المفهوم، من أجل إصدار القوانين الناظمة لممارسته، باعتباره حالة باتت مطروحة ومطروقة في ألمانيا، فمنذ العام 2020 لم تعد مساعدة شخصٍ ما على إنهاء حياته تخضع للعقوبة، فهناك جمعيات تعمل في هذا المجال، بينما كان الراغبون في موت من هذا النوع يذهبون إلى الدول التي تجيزه، ولديها تقاليد في هذا المجال مثل سويسرا.

معروفٌ في أخلاقيات الطب، وفي وعي الناس وضميرهم الجمعي، في كل البلدان تقريبًا، أن الدور الموكل للطبيب تكريم (وحماية) حياة الناس، المرضى والأصحّاء، فالحياة قيمة كبيرة بالنسبة للإنسان، وهي حقّ لكل المخلوقات، فكيف يمكن للطبيب أن يمارس دورًا يفتح فيه الطريق للموت وإنهاء حياة شخص، إن كان بوعيه وإرادته، أم من دون وعي، وبالتالي لا مجال للحديث عن الإرادة هنا؟

افتراق دائم بين قرارات المنظمات والجمعيات الأممية أو التصريحات الديبلوماسية التي تُشهرها وزارات الخارجية باسم بلدانها، والواقع على الأرض، حتى الموت في أشكاله المحقّقة أو المحتملة

يبدو أن تطوّر الحياة وتعقدها يجعل من بعض المفاهيم خاضعة لإعادة النظر فيها، لذلك فإن هذا النوع من "الموت"، الذي يسميه بعضهم "القتل"، مطروح دائمًا للدراسة وتغيير مروحة الأسباب الموجبة، وهو خاضعٌ للتصنيف تحت عدّة مصطلحات، كالقتل الرحيم الطوعي، أو غير الطوعي، أو الإجرائي، أو القسري، أو النشط، وغيرها. وليست هذه المقالة في مجال مناقشتها هنا، بل الهدف من هذه المقدمة الدخول في مفهوم الموت بالنسبة للشعوب منتهكة الحقوق، الخاضعة للحروب وما ينجم عنها من أزماتٍ حياتيةٍ تتفاقم كلما طالت هذه الحروب، بشكلٍ يصير احتمال الموت معها أكبر من احتمال الحياة، ويصبح الموت بحدّ ذاته بؤرة تحدّ، بكل يأس وشجاعة، لكثيرين من هذه الشعوب. هذا ما شهدناه ونشهده في سورية، في العراق قبلها، في لبنان، في اليمن، في السودان، في معظم الدول العربية، وأولها الموت المُحدق بالشعب الفلسطيني منذ إعلان قيام دولة إسرائيل، يدفع ثمن حقه في الحياة فوق أرضه، بينما الدول القوية تدعو إلى ضبط النفس، مع التأكيد على حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، من دون أن يكون هناك حقّ للشعب الفلسطيني، ويعبر الأمين العام للأمم المتحدة عن قلقه الذي بات يقلقنا.

هل يبرّر تردّي مقوّمات الحياة وفقدان الأمن والشعور دائمًا بتهديد الحياة، وأن الموت واقف على العتبة، أن تكون حياة الفرد رخيصة إلى هذا الحدّ؟ كيف لا تنظر الدول المتقدّمة والصناعية التي يعتبر مفهوم الموت الرحيم إحدى القضايا الملحّة التي تتطلب تشكيل لجان وتكليف دارسين، واستشارة مختصّين، من أجل تقرير هذا الموت، انطلاقًا من حرية الإنسان واستقلال قراره والتعبير عن رغباته وفلسفته موقفه من القضايا، إلى موت هذه الشعوب المُصابة بلعنة طغاتها من كل الأصناف، أو لعنة محتليها، أو تدخّل القوى الخارجية في شؤونها، وإدارة حروب تحصد الآلاف، بل مئات الآلاف، وتدير صراعاتها من دون أن يكون هناك موقف إجرائي يرمي إلى حماية الحياة، بل هناك افتراق دائم بين قرارات المنظمات والجمعيات الأممية، أو الكيانات السياسية، أو التصريحات الديبلوماسية التي تُشهرها وزارات الخارجية باسم بلدانها، والواقع على الأرض، حتى الموت في أشكاله المحقّقة أو المحتملة. هناك دائمًا ما يعوق الجهد الرامي إلى دراسته والبحث فيه، كما بالنسبة إلى المغيبين قسرًا أو المفقودين، في أماكن الصراعات الممتدة، مثل الحالة السورية، هذه الشريحة من الناس، قد يكون قسم منها يتمنى الموت الرحيم الآن، لما يعانيه في ظروف تغييبه، إذ إن طبيعة الحروب من هذا النوع أنها تتّصف بكثير من الوحشية والممارسات الشائنة والمضادّة للإنسانية، تتساوى فيها كل الأطراف، إنما لا يمكن توزيع المسؤولية والإدانة بالتساوي، بين دولةٍ لها جيش نظامي وأجهزة أمنية قوية، وجماعات أو فصائل قد تشبه العصابات في بعض أكثر ما تشبه مبرّر وجودها الذي تستند إليه في شرعيتها، أو وضعهما في الميزان نفسه، ولا حتى عدد المقتولين أو المغيّبين لديها. ومع هذا، لم يلقَ القرار الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة آخر الشهر الماضي (يونيو/ تموز)، الذي تقدّمت به لوكسمبورغ، وتنشئ بموجبه مؤسّسة مستقلة تحت رعاية الأمم المتحدة معنية بشؤون المفقودين والمغيبين قسريًّا في سورية، تأييدًا من دول عديدة، خصوصا العربية، وما يشبهها من دول ما زالت بعيدة عن مبادئ الديمقراطية والحقوق، وهذا وحده جدير بالتوقف عنده لما يضمر من أشكالٍ من الممارسات المشابهة، التي تضع حكومات هذه البلدان أمام اختبار الحقوق التي تضمنها لشعوبها.

الحياة في سورية باتت جبّارة أكثر من الموت، حياة شحيحة حدّ فقر الدم، فقر الحيلة، فقر التفكير والمخيلة

باتت الهوّة واسعة وجسيمة بين شعوب الأرض، بين الدول المتقدّمة القوية والدول الضعيفة المستضعفة من تلك، بما يخص الحقوق، في عصر الحقوق الإنسانية، فعدا الحق في الحياة والكرامة لكل إنسان لديها، صار الموت من الحقوق الواجب العناية بها، وأدرج القرار حوله تحت حقّ حرية التعبير واستقلال الإرادة.

الإنسان بلا قيمة في هذه البلدان المنكوبة، البلدان التي وصلت إلى مستوى اليأس الجماعي، فإذا كانت مجتمعات بعض الدول الأوروبية، أو المتقدّمة، توصَف بأنها هرمة، بسبب قلّة الولادات، فإن مجتمعات بلداننا المنكوبة يائسة، تعاني مع الوقت من تراجع مقوّمات الحياة، وامّحاء الحدود بين مراحلها العمرية أو أجيالها، فحتى جيل الشباب لم يعد شابًّا، ولا أنسى مقولة أحد الشباب في سورية ذات يوم من هذه السنوات المارقة: نحن جيلٌ لن يقول ذات يوم ليت الشباب يعود. ها هو الموت يتغوّل بجبروته بين فئات الشعب السوري وشرائحه العمرية، عدا القتل الذي مارسته أطراف الحرب، والموت في طرق الهجرة، هناك الانتحار الذي صار شائعًا، ليس فقط الانتحار، بل نحر الأبناء والأسرة كلها قبل انتحار المسؤول عنهم. حوادث من هذا النوع تتكرّر وتضج بها وسائل التواصل، أب قتل أولاده وانتحر، أم قتلت أولادها وانتحرت، تضج بها الوسائط، ثم ينساها الناس، أمام الموت المخاتل الذي يتبختر بجبروته في سراديب حياة السوريين، أمام حقيقة أن الحياة في سورية باتت جبّارة أكثر من الموت، حياة شحيحة حدّ فقر الدم، فقر الحيلة، فقر التفكير والمخيلة. في سورية لا الحياة رحيمة ولا الموت رحيم.