بين أظافر نتنياهو وكلب ديان المسعور
بروح مكابرة، ونبرة تُغالب اليأس، ردّ بنيامين نتنياهو على قرار الرئيس الأميركي، بايدن، وقف شحنة ذخائر فتّاكة لجيش الاحتلال، بأنّ مستوطنيه سيحاربون بأظافرهم إنِ اضطرّوا، ما أعاد إلى الذاكرة مقالاً تحليلياً لعالِم في معهد الأنثروبولوجيا الاجتماعية الألماني، نشرته مجلة فورن بولسي، وفيه أنّ استراتيجية الردع الإسرائيلية المُعتمدَة، منذ عقود طويلة، قد انهارت يوم 7 أكتوبر، وإنّ جوهر هذه الاستراتيجية قائم على التخويف، مستشهداً بالجنرال أرييل شارون الذي أوضح أنّ الردع (الخوف منّا) هو سلاحنا الاستراتيجي، كما ذكّر الكاتب بقولٍ لموشيه ديان مفاده: "يجب النظر إلى إسرائيل باعتبارها كلب حراسة مسعوراً وخطيراً جداً، ينبغي عدم إزعاجه أبداً".
هذه المقاربة بين قوليْن هي مقاربة بين زمنيْن، باعد بينهما "طوفان الأقصى"، إذ صال ديان في الزمن السابق وجال، وكان 5 يونيو (1967) ذروة سجلّه العسكري، في حين تبدو خواتيم زمن نتنياهو مجلّلةً بالفشل والإخفاق، تجلّت فيه صورة دولة مجنونة معزولة بتراء، في الشمال والجنوب، مُمزّقة الروح، خسرت الرهان تلو الرهان، تقارف جريمة الإبادة الجماعية على رؤوس الأشهاد، تقتل ولا تقاتل، تعجز عن تحقيق أهدافها وتضرب خبط عشواء، تطيش سهامها بالجملة من بيت حانون إلى خانيونس، وها هي تقف على أبواب رفح، وكلبها المسعور ينبح، من دون أن يخيف أحداً في الجوار.
وفق ما تلهج به ألسنة قادة الاحتلال من عنتريات، وما يفيض به الإعلام العبري من تحليلات مُسهبة بشأن "المعركة الأخيرة" الحاسمة، تبدو رفح، المدينة الحدودية الفلسطينية المصرية المخذولة، كأنّها بقعة في آخر الأرض، صغيرة متربة في اللامكان، صبيّة يتيمة مُتكئة على فراغ طور سيناء، وكأنّها أيضاً خشبة خلاص الدولة والمجتمع، والجيش الغارق في رمال الشريط الساحلي، الغاصّ بالبأس والبؤس والأنفاق ومقابر الشهداء، أو قل، رافعة كبيرة مُتخيّلة لترميم الصورة المكسورة، لاستعادة الهيبة المفقودة، والتخفّي من وطأة الحس بالقلق الوجودي.
وأحسب أنّ السؤال عن احتلال رفح، بأظافر نتنياهو أو بنباح الكلب المسعور، مركزي، لم يبرح العقل الجمعي الإسرائيلي طوال الوقت، وظلّ يشتّته على طول الخط الممتدّ من واشنطن إلى لاهاي، حيث تبدو نتيجة العملية العسكرية المحدودة هنا، تماثل المعركة الواسعة في خانيونس، والخسائر البشرية ثقيلة، تماماً كما كانت عليه في الوسط والشمال، والكلفة السياسية باهظة، فضلاً عن فقدان ورقة التهديد الأخيرة، ما قد يحوّل رفح إلى مصيدة، وربما إلى مقبرة، ويمحو قصّة نجاح الكلب المسعور كلّياً، ومعها أزعومة "الجيش الذي لا يُقهر".
إذاً، ما الدافع الحقيقي لمثل هذه المغامرة الطائشة في رفح؟ وما الغاية من هذه الورطة التي يحذّر من عواقبها الوخيمة كبار الجنرالات المتقاعدين والمسؤولين السابقين، فضلاً عن الحليف الأميركي العتيد، إن لم يكن هو الهروب إلى الأمام، وإطالة أمد الحرب بلا طائل، درءاً للمساءلة عن إخفاقات 7 أكتوبر الفاضحة، وفشل الحرب الانتقامية اليائسة، وانهيار المكانة السياسية، وفقدان الدعم الدولي، وربما إشعال نار الكراهية الدينية، وتأجيل الوقفة المُذلّة أمام لجنة التحقيق الداخلية، وربما الجلب أو المثول قدّام محكمة الجنايات الدولية.
ليس في رفح أربع كتائب مقاومة فقط، كما يدّعي راعي الدولة المأزومة، وليس في أنفاقها على الأرجح أسرى ينتظرون خلاصهم بالقوة المُميتة، كما أنّ هذه المدينة المتربة المُكتظّة، ذات البأس المكافئ لشقيقاتها في الشمال الغزّي المُذهل، ليست قاعدة متربّعة مكتوفة الأيدي تترقب أقدارها العمياء، فبحسب ما يتسرب من أخبار قليلةٍ عن استعدادات رفح الباسلة، وما يمور في دواخلها العميقة وأنفاقها الأعمق، من تحرّق واستعدادات للمواجهة الملحمية، وما يتوقّد في أعطاف شبابها من عزائم قويّةٍ قوّة الروح الفلسطينية، فليس هناك ما ينتظر الغزاة إلا الفخّ الذي أعدّه بكلّ أناة، مقاتلون قُدّوا من معدن رجال "طوفان الأقصى".
معركة رفح، التي بدأت بحشد عسكري أصغر، وبزخم أضعف، مما بدأت به معارك غزّة المدينة، وخانيونس، وغيرهما، لن تجري على نحو ما جرت عليه سابقاتها، تلك التي دارت وسط إجماع داخلي تُحرّكه دوافع الانتقام، وفي بيئة دولية ملائمة، داعمة بالمال والسلاح الوفير، كما تأتي المعركة المشوبة بالتردّد والتحسّب وعدم اليقين، على عكس معارك الأمس، وسط عزلة سياسية خانقة، واعتراضات أوروبية وأميركية مُعلَنة، وانقسامات بينية في الرأي العام المحلّي، وتحوّل عالمي واسع في الأوساط الرسمية والشعبية، على نحو ما يتجلّى عليه حراك طلبة الجامعات النخبوية.