بوتين وخياره النووي
أظهر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جدّية كاملة منذ بداية غزوه أوكرانيا، لكن قواته في الأسابيع الأخيرة تراجعت في الميدان بشكل لافت. التراجع الأخير أدخله بوتين تحت عناوين التكتيك، وقد فعل ذلك مرارا منذ البدايات المبكّرة للحرب، فقد حوّل هجومه عن العاصمة كييف إلى المناطق المحيطة بالدونباس وسواحل البحر الأسود، لينقل تركيزَه لاحقا لضرب البنية التحتية واستهداف صوامع الحبوب، قبل أن يتراجع بشكل كبير ومؤثّر في المناطق الشرقية، وبشكل أقل في الجنوب، ما استدعاه إلى أن يلمح في خطابه، يوم الثلاثاء الماضي، إلى أن لدى روسيا وسائل تدمير تفوق ما لدى حلف الناتو، وكانت جملته اللافتة هي "أنا لا أخادع". أراد بوتين أن يوصل رسالة قوية من خلال وضع خياره النووي فوق الطاولة، أو بعبارة أخرى أنه لا يرضى أن يخسر هذه الحرب، وإن اضطرّ لاستخدام السلاح النووي! لا يمكن أن تُحسم معركة خاركيف التي انتصر فيها الجيش الأوكراني الحرب، والتحدّث عن نصرٍ نهائيٍّ ما زال مبكّرا، ولكن تهديدات بوتين يجب أن تُؤخذ جدّيا، وخصوصا بعد أن أعلن عن استفتاءاتٍ في مناطق الدونباس وما يحيط بها تمهيدا لضمّها، بما يعني أن تعرّضها للهجمات هو تعرّض للأرض الروسية، ما يوجب الرد عليه بأكبر قوةٍ ممكنة، وقد يكون من ضمن هذه القوة السلاح النووي! وكان ديمتري ميدفيديف قد لمح، يوم الخميس الماضي، إلى أن السلاح النووي هو ضمانة لروسيا العظمى، وقد اتهم الغرب بأنه يحاول تفتيت روسيا، فأشار إلى ما تمتلكه من أسلحة، واعتبرها ضمانا لبقاء روسيا على شكل إمبراطورية.
منذ بدء التدخل الروسي في 24 فبراير/ شباط الماضي، تعامل الغرب بشيءٍ من الهدوء مع الحدث، فلم يتدخل بشكل مباشر ولم يستجب لطلبات أوكرانيا، لبحث الموضوع في مجلس الأمن وفرض مناطق حظر جوي، وحتى الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا عبر وسطاء لم يتم الاعتراف بها على العلن. وتهدف هذه الإجراءات إلى عدم إعطاء بوتين ذريعةً لتحريك ترسانته النووية، ولكن التراجع السريع في مناطق خاركيف والتدهور العسكري الذي وصل إلى حد الانهيار للقوات الروسية، قد يشكّلان نقطة انعطاف حادّة، وبوتين الذي هدّد بالفعل بردٍّ حاسم أعلن عن تعبئة جزئية، وهو قرارٌ قد يتناقض مع نيات اللجوء إلى السلاح النووي الذي يدمر الخصم، وقد يدمر الصديق إن كان على مقربة من ميدان القتال. برغم تراجع قواته، لا يعتبر بوتين نفسه قد خسر بعد، وطَلبُه المدد من التعبئة الجزئية يهدف إلى حشد تقليدي جديد سنسمع عنه قريبا، عندما يكتمل تجهيزه وزجّه في أرض المعركة، أما التلويح النووي فهو عاملٌ مكملٌ لقرار طلب التعبئة.
بعد أن استُعمل السلاح النووي أول مرة في العام 1945، شهد العالم مجابهاتٍ عديدةً بين قوى نووية وأخرى غير نووية. ورغم هزيمة الدول التي تمتلك هذا النوع من السلاح، لم تسجّل أية حالة استخدام له، وقد يكون أفضل مثالين على ذلك هو خروج أميركا من فيتنام بما يشبه الهزيمة، فقد ترك الجيش الأميركي أرض المعركة في حالةٍ من الهروب الجماعي، مخلفا وراءه آلاف الأنصار والحلفاء المحليين، كما شهدت ميادين أفغانستان هزيمة الاتحاد السوفييتي، فبعد أن حارب سنوات طويلة، وجد الجيش الأحمر نفسه مدحورا يلملم معدّاته المدمّرة ويخرج بسرعة. لم تشهد تلك الصراعات استخداما للأسلحة النووية، رغم حراجة موقف الدول التي تملكها. أما اليوم، فقد يكون الموقف مختلفا قليلا، ولكن ما زال لدى بوتين ما يحرقه في أرض المعركة من أجل انتصار، ولو صوري، ليغطّي نفسه أمام الداخل الروسي الذي أصبح بعد خسارة خاركيف مُجبرا على تحمل تعبئة جزئية قد يطول مداها لتأكل عددا كبيرا من الشباب الروسي، ولكنها قد توفّر استعمال السلاح النووي إلى مناسبةٍ أخرى.