بوتين... رواية روسية متكرّرة

30 مارس 2024
+ الخط -

يتصرّف الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وكأنه شخصية من نوع "سيغما"، أي ذاك المنعزل بين جدران قصر محاطٍ بالثلوج شتاءً، ويهرب إلى أعماق السهوب الخضراء صيفاً. صورته كشخص انطوائي بإرادته طغت على اندفاعه بعد صعوده إلى السلطة وقرع أبواب الغرب بروح ليبيرالية متجدّدة. في غضون تسعة أشهر، أظهر بوتين "تفرّده" في خطابٍ هاجم فيه رئيس مجموعة "فاغنر" الراحل يفغيني بريغوجين، بعد محاولة تمرّده في 23 ـ 24 يونيو/ حزيران الماضي، والثاني في خطاب الدقائق الخمس، السبت الماضي، ملمّحاً فيه إلى ضلوع أوكرانيا باعتداء موسكو، في 22 مارس/ آذار الحالي.
في المحطتين، بدا بوتين منزعجاً وغاضباً ومقتضباً، بما يُشبه أداء شخصٍ فُرض عليه القيام بردّ فعل. لا يشبه الأمر ما فعله في شبه جزيرة القرم الأوكرانية في مارس/ آذار 2014، ولا في إعلانه "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا في فبراير/ شباط 2022، ولا في إعلان ضمّه المناطق الأوكرانية الأربع: خيرسون، زابوريجيا، لوغانسك، دونيتسك، في سبتمبر/ أيلول 2022. في تمرّد "فاغنر" واعتداء مركز كروكوس سيتي أبان بوتين عن شخصيته الباحثة عن ضحية ثأراً، بمعزل عن كل نظريات المؤامرة، عن حياكة الكرملين التمرّد والاعتداء. أما في محطات صياغة الأحداث، فإن الرئيس الروسي كشف عن طبيعته الخاصة: شخصية مسيطرة، لا تتناغم مع المفاهيم الاجتماعية، لكن على الجميع الخضوع له.
وإذا عُدّ ديكتاتوراً، فإن لا صفة شخصية محدّدة للديكتاتوريين، فهناك البشوش منهم والعابس، الاجتماعي والمنطوي، لكنهم جميعاً يملكون خاصيّة "جنون العظمة". وفي اتهامه أوكرانيا بهجوم موسكو، رغم اعترافه بنفسه بأن "إسلاميين متطرّفين" ارتكبوا المجزرة، ظلّ متمسكاً بدور كييف في المذبحة. وهو ما تعمل عليه أجهزته الاستخباراتية، لمحاولة صياغة خيطٍ يربط بين المنفذين الموقوفين في روسيا ورأس السلطة الأوكرانية، الرئيس فولوديمير زيلينسكي.
لا يشبه الأمر الشيشان في أواخر العام 1999، غير أن بوتين الساعي بدأبٍ إلى بناء سرديةٍ تسمح بإقناع الروس بدور أوكراني رسمي في جريمة موسكو، ذكي بما فيه الكفاية لتطوير أدوات الاتهام من دون الحاجة إلى شخصٍ يبرّر أي خطوة عسكرية مقبلة له، كما فعل الأمين العام لمجلس الأمن القومي الروسي نيكولاي باتروشيف، حين كان مديراً لجهاز الأمن الفيدرالي (أف أس بي) في 1999. في ذلك الحين، ردّ باتروشيف على قضية توقيف ثلاثة من عناصر الجهاز، كانوا يزرعون قنابل مشابهة لتفجيرات وقعت في مبان سكنية في عدّة مدن روسية، بالقول: "كانوا يجرون مناورة"، لكن القنابل التي حاول العناصر زرعها كانت حقيقية.
حين يخرج "سيغما" من عزلته، فإنه مضطرٌّ للتحوّل إلى "ألفا"، لضرورات سياسية وشعبية. وهو ما لا يرتاح له بوتين، الذي قبع سنواتٍ في درسدن أيام ألمانيا الشرقية. وفي التنقّل بين الشخصيتين، تبرُز مساحة يُمكن لأي مهاجم خرقها. الولايات المتحدة على الخطّ، سواء بإصرارها على تقديم معلوماتٍ للروس بشأن الهجوم قبل وقوعه، أو بكشفها النيات الروسية لغزو أوكرانيا قبل أسابيع من حصوله. هنا مشكلة بوتين: كل ما يفعله، معزولاً أو في سياق علني، فإنه يبقى تحت المجهر الأميركي. وعادة، حين يُصبح القائد في موقع ضعف، يستنفر الخلفاء المحتملون إلى درجة قد يتجرّأ فيها أحدهم على الانقلاب عليه.
يقول بطل رواية "بطل من زماننا"، للأديب الروسي ميخائيل ليرمنتوف، واسمه غريغوري ألكسندروفيتش بيتشورين: "هناك رجلان في داخلي، أحدهما يعيش بكل ما للكلمة من معنى، والآخر يعيش من أجل إصدار الأحكام على الأول". في زمننا الحالي، هذا الشخص يسكن في الكرملين. كل شيء يدور حوله. وحين يُفاجأ بأن مادّية الأيديولوجيات، لا أفكارها، لا تتكرّر، سيحكم على نفسه بالفشل في إحيائها، ما يقود الذات إلى ظلمةٍ لا تشبه "ثائراً" سعى لتقمّص شخصية بطرس الأكبر، بل مجرّد شخصٍ قضى على الجميع ثم قضى على نفسه. في ذلك رواية روسية متكرّرة.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".