بناء خرائط أيديولوجية في الإصلاح والتغيير

19 اغسطس 2022
+ الخط -

يُعَدّ كتاب ليونارد بيندر Leonard Binder (1927-2015) الذي صدر عام 1965 بعنوان "The Ideological Revolution in the Middle East"، بما اشتمل عليه من أبحاث تهتم بدراسة علاقة الأيديولوجية بالسياسة، فريداً في بابه، إذ حاول فيه تقديم نقدٍ مهم لتلك الآثار التي يتركها الضغط المتزايد للتخصّص في علوم السياسة. وبدا بيندر في كتابه يشخّص الأمر ليقدّم أيضاً، مثلما فعل قريناه، ألبرت حوراني ومجيد خدوري، رؤية عن السياسة والدين في الشرق الأوسط، وقد كانت معرفته باللغات العربية والتركية والفارسية من أهم إمكاناته، ليس فقط لاستيعاب معطيات التاريخ السياسي للشرق الأوسط، ولكنها مكّنته من التعرّف إلى تقاليد الفكر السياسي الإسلامي، وفاق غيره بتشكيله أسلوباً خاصاً في طريقة التحليل المقارن في العلوم السياسية، واعتماده أدواتٍ مستجدّة في دراسة الظواهر السياسية في سياق تمكّنه وتقديره الفكر السياسي الغربي وتاريخه الفكري، من دون التنصل التام من تراث العلوم السياسية التقليدية.
من المهم أن نستحضر أنه، في بداية اهتمام كاتب هذه المقالة بالأثر الفكري والمعرفي الذي تركته كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، في عصر الرواد فيها، من أمثال أساتذتنا حامد ربيع وعز الدين فودة ومحمود خيري عيسى وبطرس غالي (مع حفظ الألقاب)، والرعيل الثاني الذي تكوّن من كوكبة أخرى من أساتذة علوم السياسة، فكان يتوارد على زيارة الكلية أساتذةٌ من نوعية ليونارد بيندر الذي شكّل، بأطروحاته المختلفة، عملاً جدّياً وجديداً في أوانه، يحاول أن يبني تلك الخرائط الذهنية والمعرفية والفكرية التي تتعلق بالأيديولوجيات في المنطقة العربية، وعلاقاتها بعمليات الإصلاح والتغيير، فكان أحد هؤلاء الذين وردوا على كلية الاقتصاد، رأيناه وحاضرنا بأفكاره وإسهاماته المتنوعة، التي شكّلت جاذبية خاصة في دراسة المربع المهم في العلاقة بين منطقة الشرق الأوسط، والدين، والسياسة، وعالم المذاهب والأفكار.

عمَد بيندر إلى بناء نظرية عامة لثورة نظام سياسي كامل، في ما يتعلق بالمنطقة الإسلامية في الشرق الأوسط

ويمكن القول إن الرؤية التي تضمّنها هذا الكتاب الذي ترجم إلى العربية تحت عنوان "الثورة العقائدية في الشرق الأوسط" لم يكن إلا محاولةً لخريطة الأيديولوجيات في الشرق الأوسط، وجاء الكتاب في تسع أوراق بحثية كتبها منذ عام 1957 على أساس دراساته عن منطقة الشرق العربي، وخصوصاً مصر وسورية وإيران وباكستان، متناولاً التطور السياسي والدولة القومية، والسبل الدينية ـ السياسية البديلة، وصعوبة التوافق بين الدين والسياسة، والأسس المذهبية القومية العربية في مصر، والإسلام والعروبة والمجتمع السياسي في الشرق الأوسط، والقومية الإصلاحية المتطرّفة (العروبة، الإسلام، التاريخ، الرسالة التاريخية، الثورة، الاشتراكية، الديمقراطية)، الحركة الثورية في الشرق الأوسط (الناصرية والوحدة العربية، السياسة والأيديولوجية، الوحدة العربية، الاشتراكية العربية) حياد مصر الإيجابي (الولايات المتحدة والجمهورية العربية المتحدة، الحياد المسؤول) والفصل الأخير الشرق الأوسط كنظام دولي ثانوي.
ومن الواضح أنه عمَد إلى بناء نظرية عامة لثورة نظام سياسي كامل، في ما يتعلق بالمنطقة الإسلامية في الشرق الأوسط، وعبّر عنها بوضوح كبير في الفصل الذي تحدّث فيه عن إيران، ونجح في تطوير طريقة السياسة الحديثة من خلال التمييز إلى قسمين: الطريقة التي يجب تطبيقها في تحليل تغيير النظام السياسي بأكمله، وطريقة تحليل نمط مجموعات الوظائف السياسية. وفي هذا الجانب، لم يتردّد في أن ينتقد نظرية التحديث التي قدّمها ألموند وكولمان، وخصوصاً عدم اهتمامها بالعلاقة المنطقية المتبادلة بين فئاته الوظيفية والمقدّمات المنطقية لمخطط تصنيفه، وأكثر من ذلك غياب نظرية جدلية لتغيير النظام السياسي بأكمله. مؤكّداً أن تحليل الوظائف لا يمكن أن يوضح أي زخمٍ للثورة، ومحذّراً باحثي العلوم السياسية من الخلط بين المثل الأعلى والإطار المؤسّسي، ويحذّرهم أيضاً من الاكتفاء بالتقاط بعض الخصائص الضيقة والتقليل من شأن دراسة السياسة المقارنة. ومن ثم فإن النقد الأساسي الذي يقدّمه بيندر للمدخل الوظيفي في تحليل الظواهر السياسية المتعلقة بالتغيير والإصلاح إنما يكمن في عدم قدرته على تقييم مكانة الأفكار والأيديولوجيات ضمن عمليات التغيير تلك، وعدم استيعابها مفهوم الثورة ومتطلباته في تلك العملية. ومثّل هذا نقداً مبكّراً للمدخل الوظيفي، شكّل قيمة كبرى في أوانه، وخصوصاً حين دراسة تحولات الأفكار وارتباطها بسياقاتٍ ثورية في منطقة الشرق الأوسط.

لعل مفردة الأيديولوجية بما تحمل من معانٍ وأفكار تقترن ببرنامج عمل وتحريكها على أرض الواقع، كانت تملك زخماً إيجابياً في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي

تتمثل أطروحة بيندر الأساسية في "ما إذا كانت الحقيقة، من حيث صلتها بالتنظيم الاجتماعي والمؤسسات السياسية، موجودة، ويمكن معرفتها بشكلٍ مستقلٍّ عن وضع اجتماعي تاريخي معين أو لا". ويكمن اهتمامه الرئيسي في بناء نظرية عن الثورة، أي المنطق الجوهري لتغيير النظام من وجهة نظر: ما هو الإطار المؤسّسي المناسب والنظام الملائم اللازمين، لتغيير مجتمع تقليدي ليتوافق مع المثل الغربية، بما يتناسب مع الظروف الاجتماعية والتاريخية المحدّدة للمناطق غير الغربية. وهو في ذلك بحث عن بناء نظرية التفاعل والاعتماد المتبادل بين الأيديولوجية السياسية الإسلامية والغربية، أي التوجّه التقليدي الفطري والمثل الأعلى الغربي للديمقراطية في سياق القومية، لأن "صعود القومية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصعوبة المؤكّدة في استخدام الأيديولوجية الديمقراطية لتبرير المؤسسات الديمقراطية".
تظلّ مفردة الأيديولوجية ترتقي مكاناً مرموقاً في منظومة أفكار بيندر في كتابه الذي نهتم به ضمن هذا المقال، ولعل مفردة الأيديولوجية بما تحمل من معانٍ وأفكار تقترن ببرنامج عمل وتحريكها على أرض الواقع، كانت تملك زخماً إيجابياً في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، إلا أنه مع تطور النظر إلى هذا الفكر الأيديولوجي الذي أشار، بعد ذلك، إلى نظم سياسية مغلقة، وإلى نوع من التحجّر العقائدي، فإن فكرة الأيديولوجية فقدت من بعد زخمها وبريقها في سياق ما انتشر من كتاباتٍ تتعلق ببؤس الأيديولوجية بل نهايتها. ومع هذا، لا تزال تلك الأفكار التي تتعلق بالمذاهب (ISMS) تحتل مكانة ضمن التحديدات الثقافية للمذاهب والأيديولوجيات وعالم الأفكار.
ومن هنا، يبدو لنا أن بيندر، ضمن هذا الفهم الواسع لمقولة الأيديولوجية، جعله يرصد هذه الخرائط للفكرالأيديولوجي في منطقة الشرق الأوسط في سياق ما أسماها الثورة العقائدية، فلم تكن تلك الخرائط كالخرائط الفكرية المعهودة لدى حوراني وخدّوري، حينما رصدا تلك الاتجاهات والأفكار، ولكنه تلمّس أبعاد هذه الخريطة ضمن طريقته التي اختصّ بها في جدل المعطيات وتفاعل بعضها مع بعض. ما يقدّمه بيندر في التداخل بين عمليات الإصلاح والتغيير والأيديولوجيات والمذهبيات، وارتباط هذين الأمرين بالواقع السياسي المسكون بأبعاد فكرية وثقافية شكّل، في حقيقة الأمر، منهج الجدل الذي تبنّاه في عرض خرائطه الأيديولوجية.

الإسهام الحقيقي للخرائط المعرفية إنما يكمن في الوظيفة الرصدية التي تتعلق بدراسة المشروعات الإصلاحية والتغييرية

ومن نافلة القول أنه لا يمكن قراءة كتاب الثورة العقائدية (الأيديولوجية)، الذي تحرّى فيه هذه الأفكار التي وجدت زخماً في الخمسينيات وما بعدها في معزل عن كتاب آخر، مثل تواصلاً وتطويراً لهذه الخرائط الأيديولوجية والمذهبية في كتاب بيندر الثاني المهم، "الليبرالية الإسلامية"، الذي استكمل فيه التطوّرات التي طرأت على خريطة الأيديولوجيات والمذاهب في منطقة الشرق الأوسط، حيث أشار إلى تأثير ظهور الأصولية الإسلامية في الثمانينيات على كثيرين في العالم الإسلامي، لرفض المعايير الغربية للعقلانية الليبرالية، والعودة، بدلاً من ذلك، إلى تقاليدهم الخاصة للإلهام السياسي والثقافي. هذا الرفض للفكر الغربي يراه يهدّد بإنهاء الحوار المستمر منذ قرون بين الإسلام والغرب، وهو حوار أنتج ليبرالية شرق أوسطية ناشئة، إلى جانب عديد من أشكال الخطاب غير المرغوب فيها، ومن ثم يأمل ليونارد بيندر تنشيط هذا الحوار مع الليبرالية الإسلامية، ويتساءل عمّا إذا كانت الليبرالية السياسية يمكن أن تترسّخ في الشرق الأوسط من دون ليبرالية إسلامية قوية، ويناقش بيندر إسهامات إدوارد سعيد وسيد قطب وسمير أمين وطارق البشري وزكي نجيب محمود ومحمد أركون وعبدالله العروي وغيرهم، ويستنتج من تفكيك تلك النصوص المتنوعة رؤى يعتبرها أساسيةً في فتح الحوار بين الحداثة الغربية والأصالة الإسلامية.
تبدو لنا أهمية فكرة الخرائط المعرفية والفكرية والثقافية في تحليل مشروعات التغيير والإصلاح من كونها تقوم بعمل رصدي؛ رصد عالم الأفكار هذا في تطوّراته وتحولاته وتفاعلاته بما يشكل أمراً ذا قيمة، وخصوصاً حينما نحاول أن نقيم حركة الأفكار في ميدان الواقع وتقييمها وتقويمها، بل وعالم مراجعتها. ومن هنا، الإسهام الحقيقي لتلك الخرائط إنما يكمن في هذه الوظيفة الرصدية التي تتعلق بدراسة هذه المشروعات الإصلاحية والتغييرية، مقدّمة لتحليلها ونقدها ومراجعتها، ومطالعة كتاب بيندر مع صاحبيه حوراني وخدّوري، إنما يشكل عملاً مهماً في هذا السياق.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".