بمناسبة المساجد الكثيرة في قطر
رحم الله جوزف سماحة، عدّ منحَ ف. س. نايبول، في العام 2001، جائزة نوبل للآداب، استفزازاً. وكتب، في مقالةٍ ذكّيةٍ غداة تلك الواقعة، "ليس أقلّ من ذلك". ومعلوم أنّ الكاتب البريطاني (من ترينيداد أصلاً) مشهورٌ بكتاباته المعادية للإسلام، يرى تأثيراته "كارثية" على البشرية. وينعت المسلمين بصور بالغة السوء (إرهابيين مثلاً). ... على شيءٍ من المماثلة، لماذا لا نرى سخرية مراسل إذاعة أوروبا 1، الصحافي الفرنسي، جاك فوندروكس، وهو يجيب من الدوحة على سؤال زميله في قناة سي نيوز، باسكال براود، (من باريس)، عن انطباعاته بعد وصوله إلى قطر لتغطية أداء منتخب فرنسا في كأس العالم، لماذا لا نعتبرها استفزازا، وسمِجا لا ريب. أجاب بأنه سيضحكهم في الأستوديو، فقد تناول في الدوحة شطيرةً صغيرةً ورأى مساجد كثيرة. ثم تجاوب هناك معه (أو مع سماجتِه على الأصحّ)، سائلُه المذيع، بأنّ ضحك بقهقهةٍ عالية، موضحاً، في الوقت نفسه، أنّ البثّ على الهواء، فالمونتاج غير ممكنٍ لحذف العبارة، ويستدرك زميل له بأنّ الأمر (كثرة المساجد) طبيعي في قطر.
لسنا في هذه اللقطة أمام استشراقٍ أسود، موروثٍ مما راكمته تصويراتٌ وكتاباتٌ في مدوّنات غربيةٍ تكرّست تنميطاتُها عن الإسلام والمسلمين قرونا، وإنما نحن أمام كراهيةٍ للإسلام في استشراقٍ جديد، من النوع الذي يتوطّن في نخبٍ عريضةٍ في الميديا الغربية (الفرنسية خصوصا؟)، لا يريد أن يعرف المسلمين ودينَهم كما يجب أن يُعرَفا، وإنما يكتفي بما تغذّيه في أفهام هؤلاء ممارساتٌ مستنكرةٌ يقترفها مجرمون ذهبوا إلى تأويلاتٍ منحرفةٍ لمفاهيم ومنظوراتٍ إسلامية، تأخذُه عن طابعه دين عدلٍ ورحمة. وعندما يرفض جاك فوندروس في مداخلته التلفزيونية "تسييس الرياضة"، ويستهجن استصغار قطر لتنظيم كأس العالم، فإنّه يبدو في صورة المهنيّ المُنصف، لكنّه لا يُغادر ثقافةً في مداركه يستحكم فيها الحوَل القاصر، أن قطر دولة مسلمين عندهم مساجد كثيرة وحسب، فلا يريد أن يرى الفنادق الكثيرة الفاخرة فيها، ولا الأبراج العالية، ولا يحاول أن يرمي عينيه (قال إنه تجوّل في الدوحة) على مستشفياتٍ ومرافق صحيةٍ كبرى، أو معاهد وجامعات (بعضها غربية)، أو منشآتٍ رياضية وملاعب باهرة جاء خصيصا، ليشاهد مبارياتٍ وتدريباتٍ فيها. ويظن (الزميل؟) أن من حقّه السخرية من المساجد (كم ينبغي أن يكون عددها حتى لا تكون كثيرة) فيما لا يستطيع (ولا يجوز طبعاً من قبلُ ومن بعد) الهزء من كثرة الكنائس في بلد أوروبي يزوره، وذلك لأنّ المقيم في مخياله أن المسلمين متخلفون لأنهم مسلمون.
سخافة هذا المراسل موصولةٌ بترسانةٍ من التعميمات والمطالعات الذهنية التي جعلت صموئيل هنتنغتون يرى الإسلام عدوّا مهدّدا للغرب، في تنظيره لصدامٍ محقّقٍ بين الحضارات. وموصولةٌ بفعلة صحيفة لوكنار أونشينيه، في رسمها الكاريكاتيري، الشائن، لاعبي منتخب قطر في كأس العالم بلحىً وأرديةٍ سوداء ومزنّرين بقنابل. وكان صنيعاً حسناً من وزير العمل القطري، علي بن صميخ المرّي، أنّه أظهر هذا الرسم أمام مستمعيه في البرلمان الأوروبي في بروكسيل، الأسبوع الماضي، تدليلاً منه لهم على صواب قوله إنّ كثيراً مما ينكتب ضد بلده عشية انطلاق كأس العالم يمثل خطاب كراهيةٍ وعنصريةٍ ممنهجا. كما أن تلك السخافة موصولةٌ، على نحو ما، بالذي جهَد برنارد لويس في شرحه عن "روح كراهيةٍ وعنفٍ" ماثلةٍ بين المسلمين ضد الغرب.
كتب فوكوياما، في مقالةٍ تالية على كتابه "نهاية التاريخ"، أنّ "الإسلام هو النظام الثقافي الوحيد القادر على الإنتاج الدوري لأناسٍ مثل بن لادن أو طالبان". ولمّا كان خطأ المنظّر المعروف جسيماً في تسطيحه الظاهر في قولتِه هذه، ينصح صاحب هذه السطور الصحافي الفرنسي، طالما أنه في الدوحة، أن يتعرّف إلى دورٍ حضاري تؤدّيه جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، عندما توطّد العلاقات بين الثقافات والشعوب والأمم، وتكرّم أصحاب المنجزات ممن يجيدون نقل الأفكار والإبداعات من مختلف اللغات إلى مختلف اللغات. وفي وسع "الزميل" أن يرى من نافذة الفندق الذي يقيم فيه ناساً من عدة شعوبٍ، مسلمين وغير مسلمين، مبتهجين في أمن وأمان.
تُرى، هل هو نظامٌ ثقافي غربي قادرٌ أن ينتج (دائماً أو دورياً) أمثال فوندريس وزملائه الذين شاركوه الضحك، وأمثال ناس تلك المجلة الفرنسية المعيبة؟ ربما.