بلينكن وزيراً للخارجية الإسرائيلية
إذا تسنّى لهذا المقال الوصول إلى المكتب الصحافي في وزارة الخارجية الأميركية، وتم تمريره للسيد الوزير، فاالمرجّح أن ينظر أنتوني بلينكن إليه بعين الرضا، وربما يبتسم في سرّه، سعيداً بهذه التهمة التي يعزّ عليه إنكارها، ومغتبطاً بهذا "الشرف" الذي لم يدّعيه، ولا سيما وقد كرّس ناظر الدبلوماسية الأميركية جهوده الحثيثة، على مدى الشهور الأحد عشر الماضية من عمر حرب الإبادة الجماعية على غزّة، في تسويغ هذه الحرب حيث حلّ وارتحل، وتبرير جرائم القتلة تحت شعار حقّ الدفاع عن النفس، إلى الحد الذي بدا فيه وزير خارجية جو بايدن وزيراً للخارجية عند بنيامين نتنياهو.
ومع أن في هذا التشخيص السريع لأداء كبير دبلوماسيي الدولة العظمى مذمّة صريحة، وينطوي على نقيصةٍ معيبةٍ بحقّ وزير وزراء خارجية العالم الغربي، إلا أن الأمر قد يبدو له مديحاً أتاه من حيث لا يحتسب، أو تقريظاً مستحقّاً للرجل الذي حين هبط في مطار اللد، يوم الثامن من أكتوبر/ تشرين الاول الماضي، قال بعظمة لسانه: جئت ليس كوزير خارجية للولايات المتحدة فقط وإنما كيهودي أيضاً، ثم واصل، خلال عشر جولات شرق أوسطية متعاقبة، لعبة التغطية على جريمة حربٍ قد تبدو حرباً أميركية أكثر من كونها إسرائيلية.
ما كان لهذا الحُكم السياسي الأخلاقي أن يصدر هكذا بصريح العبارة، ومن دون تردّد، إلا بعدما أختتم أنتوني بلينكن جولته الفاشلة أخيراً، بأكبر فشل في حياته الدبلوماسية، وظهر في مطار اللد ذاته بموقفٍ ينم عن استخفاف، أو قل عن سذاجة سياسية بالغة، حين زعم، من دون أن يرفّ له حفن، أن مضيفه المتمترس خلف شريكيه، بن غفير وسموتريتش، قد وافق على مبادرة بايدن المعدّلة، وما على الطرف الآخر، والحالة هذه، إلا أن يقبل بالصفقة المعروضة من ألفها إلى يائها من دون مناقشة.
لم يكن في الأمر حُسن نية، أو سوء فهم لنيات نتنياهو الحقيقية، فقد رغب بلينكن في إنضاج الطبخة المسمومة على عجل، والتماهي مع موقف اليمين المتطرّف بصورة أكثر صهيونية من هرتزل نفسه، فظهر الآتي في اللحظة الأخيرة لإنقاذ صفقة وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى من الانهيار التام وكأنه قد جاء بعماء بصيرة لتخريب اللعبة، حيث كذب على كل الأطراف المعنية، بمن فيهم طريد مدّعي عام محكمة الجنايات الدولية، عدا عن الرئيس العجوز في البيت الأبيض، ناهيك عن الوسطين العربيين، اللذين استصعب عليهما فهم أحجية بلينكن هذه.
تبقى ملاحظتان متصلتان بهذه المسألة، أولاهما أن بلينكن ليس صانع سياسة في واشنطن، وأن الأمر حين يتعلق بدولة الاحتلال يصبح أكبر من وزير خارجية أميركي متعثر الأداء الدبلوماسي، حيث تبدو المؤسّسة الأميركية، بكل أركانها، هي التي تقف في ظهر نتنياهو بالمال والسلاح وكل أشكال الدعم والمساندة، ما يجعل من هذا الفشل المعلّق في رقبة بلينكن مجرّد تفصيل صغير، طالما أن الصهيوني الكبير الطاعن في السن وضعف الذاكرة هو الأب الحقيقي لهذه المقتلة التي يصفها بعضهم بأنها حرب جو بايدن.
تتمثّل الملاحظة الثانية في تجاهل بلينكن التام، أسوة بغيره من وزراء الخارجية الأوروبيين، وزير خارجية نتنياهو، على مدى زياراتهم المتعاقبة إلى تل أبيب، حيث لم يعقد أي من هؤلاء لقاءً مع يسرائيل كاتس، ولو على سبيل المجاملة، الأمر الذي يشير بوضوح إلى حقيقة أنّ نتنياهو هو الحاكم المطلق للدولة المجنونة، وأن كل الوزراء، من أمثال كاتس، بمن فيه وزير الحرب غالانت، هم مجرّد بيادق على لوحة شطرنج يُحرّكها المطلوب لمحكمة الجنايات الدولية، ما يؤكد المؤكّد أنه لا وجود في دولة الاحتلال والإجرام لنظام حكم ديمقراطي، سبق أن أوهموا النظم الغربية بوجوده واحة في صحراء الشرق الأوسط.
فهل بعد هذا كله يمكن التشكيك بحقيقة أن أنتوني بلينكن هو وزير الخارجية، غير المتوّج في دولة بنيامين نتنياهو، وأنه بذل كل ما في وسعه لإنقاذ الدولة العبرية من كل مأزق تعرّضت له خلال حرب الإبادة الجماعية على غزّة. ومع ذلك، ألحق انحيازه الأعمى لبني قومه، وكذا مبالغاته في التزلّف لأقصى اليمين الفاشي، به الفشل الذريع، وأوديا بسمعته وأسقطاه من سجل وزراء الخارجية الأميركيين الكبار، أمثال هنري كيسنجر وجيمس بيكر.