بليغ حمدي .. مرّة أخرى
بصراحة؛ لم يكن كاتبُ هذه الأسطر يعرف عن الموسيقار بليغ حمدي أكثرَ من كونه ملحناً جيداً، لحّن لعبد الحليم، وفايدة كامل، ثم لأم كلثوم أغنية "حب إيه؟".. ولكن الاهتمام المتأخر به قادني إلى حقائق مذهلة، منها أنه اكتشف عدة مواهب جديدة، مثل علي الحجار، وعفاف راضي، وميادة الحناوي، وقدم لهم ألحاناً اشتهرت بسرعة.
ثمّة مطربون كانوا موجودين على الساحة الغنائية عندما احترف بليغ التلحين في أواسط الخمسينيات، أو ظهروا لاحقاً، أُعجب بأصواتهم، فأعطاهم ألحاناً تحوّلت إلى علاماتٍ في مسيرتهم الفنية، كـ "زي العسل" لصباح، و"عيون بهية" لمحمد العزبي، و"أنا بستناك" لنجاة الصغيرة، و"متحبنيش بالشكل ده" لفايزة أحمد، وحتى فهد بلان كان له في ألحانه نصيب أغنية "على كفي". وأما شادية، فكان من أجمل ما لحّن لها "قولوا لعين الشمس ما تحماشي"، إضافة إلى أغاني مسرحية ريا وسكينة التي عشقها الناس، وسحرتهم بشكل خاص أغنية "حبك جننا يا اسمك إيه؟"، والتي يبدو فيها عنصر التطريب الشرقي بارزاً، على الرغم من كونها أغنية هزلية.
عبّر الموسيقار محمد عبد الوهاب عن إعجابه (المشوب بشيء من الغيرة الفنية) بتجربة بليغ حمدي، فقال: إن الألحان "بتتحدف عليه".. وبتخطر له حاجات ما بتخطرش للملحنين غير مرّة كل مية سنة"!
شخصية بليغ حمدي الإنسانية غنية، واسعة، مُسَايِرة، فلم يكن يقول "لا" لمن يطلب منه لحناً، حتى إن أم كلثوم حذّرت المطربين من الإلحاح في الطلب عليه، وقالت: "سيبوه يجري زي ما هو عايز وكأنه نهر من غير مجرى".
معظم الحكايات التي تحمل قيمة فنية وإنسانية تقود إلى بليغ حمدي، ففي بداياته، وبالتحديد سنة 1957 كان قد لحّن أغنية "تخونوه" لعبد الحليم حافظ في فيلم "الوسادة الخالية"، ولم تكن وردة الجزائرية يومئذ سوى صبية في الثامنة عشرة، دخلت السينما (في باريس) لتشاهد الفيلم، فسحرها اللحن، وصارت تخرج من الصالة وتعود إليها، وتقول لنفسها: سأسعى للتعرف على ملحن هذه الأغنية، وأطلب منه أن يلحن لي أغنياتي، وحَ أتجوزه. والجدير بالذكر أن بليغ لحّن لوردة أول مرة في سنة 1963، أغنيتين هما: يا نخلتين في العلالي، وأحبك فوق ما تتصور، غنتهما في فيلم "ألمظ وعبده الحامولي"، ثم سافرت إلى الجزائر، وتزوجت، وأنجبت ولدين، وطلقت، وتزوجها بليغ سنة 1972، وطلقا سنة 1979، وبقيا على تواصل ومودّة.
كان الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي قد كتب، في تلك الأيام، أغنية "تحت السَّجَر يا وهيبة" التي لم يرض أحد من الملحنين تلحينها، حتى إن محمد حسن الشجاعي سأله ممازحاً "إيه الشعر ده؟ يَمَني؟"، ولكن ضربة حظ حققت له نجاحاً باهراً عندما وافق عبد العظيم عبد الحق على تلحينها، وعندما أذيعت حققت نجاحاً غير مسبوق.. ذلكم النجاح دفع عبد الرحمن الأبنودي إلى تكرار تجربة التعاون مع محمد رشدي، وذات مرة، ذهب لزيارة عبد العظيم عبد الحق، وقرع الباب، ففتحت له صبية وضاءة الوجه، ممشوقة القوام، فاستخدم معها طريقة والدته في السؤال: اسم النبي حارسِكْ اسمك إيه يا صبية؟ فقالت: عدوية. ومن هنا تبدأ حكاية ذات وقائع طريفة، وهي أن عبد العظيم عبد الحق لم يستطع تلحين القصيدة، بعدما استكملها الأبنودي، لأن البنت التي يجري التغزل بها ابنته! فأخذها الأبنودي لبليغ، ولحّنها، فحققت نجاحاً قلبَ الوسط الفني رأساً على عقب، وكان بليغ وعبد الحليم يعيشان قطيعة نتيجة موقف سابق، فلما رأى عبد الحليم الناس في الشوارع يغنون "عدوية أهيه"، عاد إلى بليغ، وقبل أن يغير نمط غنائه، فغنى، توبة، وسواح، وغيرهما.
وأخيراً، يكفي للدلالة على عبقرية بليغ أن أكثر عشر أغان اشتهرت لأم كلثوم، ستٌّ منها من تلحينه.