بلدان اسمُهما السودان
التاريخ: 20 مايو/ أيار 2023. اليوم ما قبل الأخير في الأسبوع الأول من الشهر الثاني لحرب الخرطوم.
أعلنت الأمم المتحدة قبل يومين عن حاجة حوالي 25 مليون سوداني لمساعدات إنسانية عاجلة بسبب الحرب. القنوات التلفزيونية تبثّ صوراً للعاصمة الخرطوم تحترق. الدخان يتصاعَد من المباني نحو السماء، كأنما هو دعاء مؤمنٍ يشكو لربّ الأرض والسماء ما فعله الإنسان. في ذلك اليوم، استيقظت على رسالة في هاتفي من بعض أفراد أسرتي القريبة. لقد غادروا مكانهم متجهين نحو الحدود المصرية السودانية. قرّروا بعد شهر من الحرب أن يتركوا البلاد وينزحوا. هذه أسرة أمضت في الاغتراب خارج السودان أكثر من 30 عاماً. كان حصادهم منزلا فخما، وسيارة فارهة. تركوا كل ما جنوه من سنوات الغربة، ونزحوا بملابسهم التي عليهم، وحقيبتين. لكني، ولسببٍ مفهوم، كنت سعيداً لأجلهم. إنهم يتّجهون نحو الأمان. هذه أسرة لن أقلق عليها أكثر. سأوفر قلقي لبقية الأهل. فالحرب التي اشتعلت في 15 إبريل/ نيسان الماضي تتوسّع. والنصر الذي تمنّاه المقاتلون خلال ساعات كان مثل غودو صموئيل بيكيت. بدأت قبائل سودانية تعلن ولاءها لطرفي الحرب. مجموعات في شرق السودان أعلنت تأييدها قوات الجيش. مجموعات في الغرب أعلنت تأييدها قوات الدعم السريع.
***
كيف تبدأ الحرب الأهلية؟ هكذا.
***
أهرب إلى شاشات الفضائيات أطلب خبراً. الجيش سعيدٌ بظهور قائده قبل يومين للمرّة الأولى منذ بدء الحرب. يمشي متعجّلاً في ساحة آمنة، يحفّه الجنود المهللون. لماذا يهلّلون؟ إنهم سعداء. وسياسي سوداني مؤيد للحرب يطالب الجيش بإعلان التعبئة العامة وتسليح المواطنين.
***
هل سمعت عن الحرب الأهلية؟ مرحباً بك إلى مقدّماتها. والعالم يجمع التبرّعات والمعونات لدعم السودانيين. هذا هو السودان، للأسف. ولكن، هناك سودان آخر.
***
التاريخ: 20 مايو/ أيار 2023. يوم العرض الأول لفيلم "وداعاً جوليا" في مهرجان كانّ السينمائي. المرّة الأولى في التاريخ التي يصل فيها فيلم سينمائي سوداني إلى المهرجان ليُعرَض في قسم "نظرة".
بينما الخرطوم تحترق، وأسرتي تقترب من الحدود المصرية، والمعونات الإنسانية الدولية تصل إلى مدينة بورتسودان، وقف جمهور مهرجان كانّ سبع دقائق يصفّق ويقدّم التحية لفيلم سوداني أذهله.
يعرض الفيلم قصة إنسانية بحبكة درامية مدهشة. عن علاقتنا بالآخر، وميراث الحروب. ليست قصة خيالية تماماً. فهي تتكئ على تاريخ السودان مع أطول حربٍ أهليةٍ في المنطقة. الحرب بين الشمال والجنوب التي لم تنته إلا بانقسام البلد إلى بلدين. ثم، أكلت الحرب الداخلية البلدين. لم ينعم أحدهما بالسلام.
***
نحن أمام بلدين. يجمع بينهما الاسم. لكن كل بلد منهما يختلف عن الآخر. ولكل بلد منهما رعاة. هناك سودان الحروب، يأتيك برعاية قيادات الجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان ومن معه، وقوات الدعم السريع بقيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو حميدتي وشقيقه. وعلى الجانبين، يقف مصفقون للحرب، ومهللون لها. من يعتبرون صورة الخرطوم المحترقة ثمنا مقبولا لما يطلبون. وهناك سودان الفنون. قدّمناه للعالم في مهرجان كانّ السينمائي برعاية مجموعة من المبدعين السودانيين. وأمام هذا السودان وقف الجمهور مصفّقاً ومحيّياً. سودان تُجمع له المعونات الإنسانية. وسودان يقف له الناس احتراماً. ليس بلدا واحدا. بل هما رؤيتان، إلى ذواتنا والعالم وعلاقتنا به. رؤية لا تعرف إلا لغة البندقية والموت والدمار. ورؤية تتحدّث عن ضعفنا وهزائمنا بلغة فنية رشيقة.
***
التاريخ 20 مايو/ أيار 2023. في ذلك اليوم، كان وفدا الجيش السوداني والدعم السريع يتفاوضان في جدّة، تحت الضغوط الدولية لأجل هدنة إنسانية، وقّعا عليها لاحقاً ولم يلتزما بها. وفي ذلك اليوم، كان وفد السودان الآخر من ممثلين وفنانين يعرض فيلمنا الأول في مهرجان كانّ السينمائي.
أنا، وبكل فخر، أنتمي للسودان الآخر. وأؤمن به.
***
"يؤلمني أني أمشي على السجّاد الأحمر بينما يهرب السودانيون من القذائف": محمد كردفاني، مخرج فيلم "وداعاً جوليا".