"بقاء" في محاولة فعل أيّ شيء

25 نوفمبر 2023

من معرض "بقاء" للتشكيلية هبة حلمي في القاهرة (صفحة هبة حلمي في "فيسبوك")

+ الخط -

نادراً ما يحدُث أن يقيم فنان تشكيلي معرضاً فنياً تفاعلياً يشارك فيه أشخاصٌ من مختلف الأعمار، سواء في فترة التحضير للمعرض، أو في وقت عرضه في صالة العرض المخصّصة، ويكون له تأثير كبير على الجمهور في الوقت نفسه، بحيث إنك تتجوّل في المعرض، وأنت تمسك قلبك بين يديك، خشية أن يسقط فوق الحطام المتناثر على أرض الصالة. معرض "بقاء" للتشكيلية والخزّافة المصرية، هبة حلمي، المقام حالياً في قاعة الباب، التابعة لقطاع الفنون التشكيلية في دار الأوبرا المصرية، فعل هذا بنا تماماً.

سوف تدخُل من باب القاعة، لتواجهك أكفانٌ بيضاء طويلة معلّقة من السقف وممتدّة حتى الأرض، مكتوبٌ عليها بخطوط مختلفة آلاف الأسماء، وفي قلب الأكفان مربّعات بيضاء صغيرة خيطت إلى الكفن الأبيض بخيوط سوداء، مكتوب فيها بخطّ هبة حلمي اسم واحدة من العوائل التي فقدت العدد الأكبر من أطفالها في غزّة ومحاطة بآلاف الأسماء المفردة؛ سوف تمشي في القاعة، لترى مزيداً منها، قبل أن يأخذك الطريق نحو مساحة مغلقة بأكفان بيضاء، خالية من الأسماء، تضم آلافاً من قطع الجصّ الناشف المتكسر المدموغ كله بدمغة حنظلة (الرمز الفلسطيني الأشهر)، وبكثير من الأسماء التي كان لها قبل أقلّ من شهر أجساد وأحلام وروائح، لولا أن فتكت بها سفالة هذا العالم، وحوّلتها إلى أسماء مجرّدة. عليك هنا أن تمشي بحذرٍ بين الجص المتكسر، بين هذا الدمار الذي تراه بأمّ عينيك، عليك أن تحرص على ألا تتباهى بقوّة قدميك، فتدهس أنت أيضاً ما سيتبقّى من هذا الدمار. عليك ألا تنسى ذلك، كي لا تصبح شريكاً في الجريمة بنسيانك أو بلامبالاتك؛ ستتُرك هدا المربّع المدمّر، لتجد نفسك أمام باب القاعة من جديد، لكنك، قبل خروجك، سترى كفناً آخر، وبجانبه أقلام متنوّعة. ستتناول منها قلماً، وتكتب ما يخطُر لك وأنت تخرُج من التجربة، مشحوناً بالحزن والغضب والذاكرة.

نعم، الأسماء المكتوبة على الأكفان البيضاء هي أسماء الأطفال الذين سقطوا في غزّة خلال الشهر الماضي، بسلاح الاحتلال الإسرائيلي والعالم الأبيض والتواطؤ العربي. أما المعرض الذي كان مقرّراً أن تقيمه هبة حلمي قبل 7 أكتوبر، وتعرض فيه جديد أعمالها في فنّي الخط والخزف، فهي لم تستطع إكماله، وأخبرت إدارة القاعة بأنها سوف تلغي مشاركتها أو تقدّم ما يمكنه أن يساند الفلسطينيين في حرب الإبادة التي يتعرّضون لها؛ فكان معرض بقاء "بقاء الحياة، القضية العادلة، المقاومة، بقاء الشعب العنيد، بقاء غزة حرّة والشهداء أحياء"، كما تقول هبة في تقديمها المعرض الذي ليس سوى إحدى محاولاتنا المحدودة للحفاظ على الحكاية حاضرة دائماً، كي لا يطويها النسيان، كما لو أن هبة حلمي هنا تعيد الحكاية كل يوم لمن يزور قاعة الباب، كما لو أن اسم القاعة (الباب) هو المدخل إلى الذاكرة التي يريد عدوّنا طمسها بكل تفاصيلها، وتحويلها إلى ترابٍ ناشفٍ لا يمكن إعادة تجميعه. ولكن لدى هبة حلمي في مشروع "بقاء" اقتراح آخر، أن تكون المشاركة الجماعية هي الماء الذي يُضاف إلى التراب، كي نتمكّن من إعادة تشكيله، كي نجعله عجينةً نعيد من خلالها تأسيس ذاكرةٍ جمعيةٍ ننقلها إلى أولادنا وينقلونها إلى أولادهم، فلا ينسى أحد من سلالاتنا ما حدث على هذا "الكوكب الوحشي".

تقول هبة إنها، في أثناء التحضير للمعرض في بيتها، فوجئت بأصدقائها يُحضرون أطفالهم وأطفال أقاربهم ليدوّنوا أسماء أطفال غزّة على القماش الأبيض؛ "كان الأطفال يسألون عما يحدُث هناك، ويستمعون بدهشة. كانت الدهشة تتحوّل إلى دمعةٍ محبوسةٍ في عيونهم الطفلة. كانوا متفاعلين مع المشروع بدرجةٍ مدهشةٍ في الوقت الذي عجز به كثيرون من الكبار عن كتابة أي شيءٍ على القماش الأبيض". تقول هبة حلمي لي وأنا أتجوّل معها في القاعة، نمشي بين الأسماء والأنقاض: "كنتُ أريد أن أفعل أي شيء، أن أتشارك هذا الغضب مع الآخرين". شعرتُ أيضاً كما لو أن هذا المعرض ليس سوى محاولة لقول شيءٍ ما وسط هذا العجز الذي نعيشه جميعاً، محاولة للقول لأهل غزّة إننا معهم، ونشعر بهم ونحفظ أسماءهم، ونردّد حكايتهم/ حكايتنا التي ورثناها عن هزائم متلاحقةٍ لم يبق من أملٍ في طيّها سوى هذا الصمود النادر الذي فيهم، والذي استطاع أن يفتل رأس الكرة الأرضية ليحدّق بهم وحدهم.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.