بغيضة ومقزّزة
من بين جملة مفردات نادرة الاستعمال، استخدمها الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، في معرض تعقيبه على ما وقع في بلدة حوّارة جنوب نابلس (حرق منازل وتدمير ممتلكات وتهديد بالمحو)، وصف هذا الحدث الذي ارتكبته مليشيات المستوطنين، برعاية جيش الاحتلال، بكلماتٍ من خارج القاموس الدبلوماسي، وبنبرةٍ لم يسبق لناطق في البيت الأبيض أو الخارجية الأميركية أن قالها من قبل بحق أي دولة، بما فيها إيران أو كوريا الجنوبية، فما بالك وأن المخاطب بهذه النعوت المهينة "المقزّزة والبغيضة" هي الدولة الأوثق صلة والأقرب منزلة من قلب الدولة العظمى الوحيدة.
ما كان لهذا التشخيص، الذي تفرّدت به دولة أطول احتلال في العصر الحديث، دون غيرها، أن ينال اهتماماً لو أنه صادر عن مرجعية عربية أو آسيوية، وما كان له أيضاً أن يلفت الانتباه لولا أنه قيل، بالصوت والصورة، من إدارة "الصهيوني الكبير" جو بايدن، المتيّم بحب الدولة المقزّزة، فهذه سابقة غير مسبوقة، ولغة لم نعهدها في أيّ وقت مضى من ناطق أميركي، في أي عهدٍ من الإدارات المتعاقبة، حيث درج هؤلاء، في العادة، على غضّ البصر او حتى إغماض العينين عن انتهاكات الاحتلال الوحشية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولكن السؤال هنا ليس عن تقريع إسرائيل بمثل هذه الصفات المذلّة، التي لا يُستهان بها ولا ينبغي المبالغة بها، كما لا يجري التساؤل عن نتيجة هذه السابقة التي لا سابق لها بين حليفين، بل عن السياق الذي جعل الأم المرضعة، وهي أميركا، تستبدل نظرة العطف تجاه ابنٍ مدلّل، كانت تضعه في سويداء قلبها، وتحميه برموش عينيها، بنظرة أخرى بديلة، قوامها التقزّز الباعث على التقيّؤ جرّاء صورته الذميمة، وفحواها التبرّؤ من أفعاله المشينة ومن مسلكيته المستهجنة، سيما في زمن حكومة اليمين الديني الصهيوني المتطرّف.
ذلك أن الولد الطائش، الذي كثيراً ما كان يُكسّر ألعابه الثمينة، وبصق في الصحن الذي يُغمّس فيه بوقاحة، لم يُفطَم، رغم دخوله العقد الثامن من عمره، وظلّ صغيراً في عين أمه، إلا أنه صار، مع مرور الوقت، شقياً أكثر وبات خطراً على نفسه قبل غيره، الأمر الذي أخذ يُبدّل النظرة إليه، حتى من جانب أمه، إلى أن فاض بها الكيل، وضاقت ذرعاً بمجونه وطيشه، وهو الأمر الذي بدأ تدريجياً في الإعلام والأكاديميا ومراكز حقوق الإنسان، بل وطاول النخب التقدّمية في الحزب الديمقراطي والمنظمات اليهودية الأميركية، إلى أن بلغ أخيراً أوساط الخارجية، التي لم يعد في مقدرتها الأخلاقية تبرير أفعال الولد الشرّير في الشرق الأوسط.
ليس معنى ذلك كله أن انقلابا ما قد وقع في منظومة العلاقات الاستراتيجية بين أميركا وربيبتها إسرائيل، أو أن هناك جديداً يمكن البناء عليه في هذه اللحظة، التي يستعد فيها الحليفان ويمهّدان لضرب المنشآت النووية الإيرانية، إلا أنه يجب إيلاء بعض العناية لمغزى هذا التعريض الأميركي بالسياسة المقزّزة لدولةٍ وضيعة، يطالب بعض أركانها بمحو بلدة حوّارة من على وجه الأرض، ولا يجرؤ نتنياهو على القول لوزير ماليته سموتريتش، "ما أحلى الكحل في عينك" أيها الوغد الذي أفشى السر، وأفصح عما يدور في خلدي.
ليس من المعتقد أن هناك عاقلاً راشداً في المنطقة يمكنه التعويل على وصم سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين بالمقزّزة، أو إبداء الحفاوة المبالغ بها بهذه النعوت المهينة لدولةٍ ليس لديها أيّ حساسية تجاه الرأي العام الدولي، لكن من غير المنطقي عدم أخذ هذا المتغير الطفيف في الحسبان، ونحن نُدقّق في التحوّلات الجزئية المتراكمة في مجرى المياه العميقة بين الدولتين اللتين تأسّستا على النهج الاستيطاني والإحلال في كل من فلسطين قبل نحو 75 عاماً وأميركا قبل نحو مائتي عاماً، حيث أدّت جملة من المتغيرات البطيئة، وبفعل تطوراتٍ لا حصر لها، إلى لطم مسؤول أميركي، ومن على منبر رسمي، إسرائيل على وجهها أمام الملأ، وعلى رؤوس الأشهاد.
ومع أن مدلول كلٍّ من مفردة بغيضة ومفردة مقزّزة معروفٌ وشائع التداول على وجه العموم، إلا أن البحث عن معنى المفردتين في معجم المعاني الجامع، يمكّن الباحث من الوقوف على مرادفاتٍ كثيرة لكل منهما، أحسب لو أن الناطق باسم الخارجية الأميركية يفقه العربية، لما قال إن سياسة إسرائيل بغيضة تجاه الفلسطينيين، وإنها مقزّزة تبعث على الغثيان للنفس البشرية السويّة الخالية من الحقد والكراهية.