بعد إغلاق مكتبة في دمشق
لم تكن وكالة الأنباء الفرنسية تشيع فألا سيئا عندما طيّرت، في تقريرها الجيّد، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، عن مكتباتٍ في دمشق تكافح من أجل أن تُبقي أبوابها مفتوحة، أن مكتبة النوري العريقة (تأسّست في العام 1930) مهدّدة بالإغلاق، على ما نقلت في حينه هذا، عن صاحبها السبعيني، محمد سالم النوري (نجل مؤسّسها). مرّ الخبر الأسبوع الجاري أن المكتبة أُغلقت فعلا، فانضمّت إلى سابقاتٍ لها في العاصمة السورية، ميسلون التي باتت محلّ صرافة، واليقظة العربية (تأسّست في 1939) التي افتُتح مكانها متجرٌ لبيع الأحذية، والعائلة والزهراء ونوبل، وغيرها من مكتباتٍ كانت في عقود ماضية فضاءاتٍ حيويةً للقرّاء وطلاب المعرفة وأهل الثقافة، ثم صارت أخيرا محلاتٍ لبيع الشاورما والألبسة المستعملة والعصائر والفلافل، على ما يُخبر أحد العارفين المتابعين المقيمين هناك. وعلى ما أخبرت وكالة الصحافة الفرنسية، فإن مكتبة دار دمشق (تأسّست في 1954) تحوّلت إلى مكتبةٍ لبيع القرطاسية، غير أنها "برسم البيع" لمن يرغب.
أن يُقال إن إغلاق مكتبة النوري، بعد أن لم تعد قادرةً على تحمّل نفقاتها، خبرٌ مؤسفٌ ومحزن، فذلك من نافل الكلام، وهو موصولٌ، بالطبع، مع إغلاقاتٍ سابقةٍ تتالت لدور نشرٍ ومكتباتٍ عديدة، بفعل الظروف بالغة السوء والضاغطة على الحياة، حيث اهتراء القدرة الشرائية للمواطن السوري، وتقدّم أولوياته المعيشية التي يُجاهد من أجل تأمينها على الحاجة إلى المطالعة والقراءة، وحيث عشرات الأسباب التي تجعل صمود المكتبات وبقاءها ومقاومتها كل الخسارات والتكاليف أمرا بالغ الصعوبة، بل وبطوليا في وصفٍ جائز. وهذا كله كلامٌ مخصوص، غير أنه، في ظاهره وفي تضاعيفه، يأخذك إلى حالة سورية بلدا يُسرع إلى الحُطام، يفقد كل ألق فيه، ليس فقط بفعل موجات الهجرة والفرار واللجوء والنزوح منه، وقد خسر البلد في هذا كله خبراتٍ وطاقاتٍ وكفاءاتٍ وقدراتٍ بلا عدد في مختلف المناشط، وإنما أيضا بفعل الموت الجاري لسورية نفسها، بلدا عربيا، ظلّ موطنا للمعارف والإبداعات والفنون والإنتاج الفكري والثقافي العريض، وبلدا ضاع، مقهورا بفعل ما أعملته فيه آلات الاستبداد الحاكمة فيه منذ عقودٍ ليست قليلة، وأدخلته، بعد أول صيحةٍ هتفت بمطلب الحرية والانعتاق، في ربيع 2011، في طور التمويت والتهديم والإرهاب والفتك الذي عصف بالإنسان السوري، وردّ البلد إلى تأخّرٍ وتخلّفٍ مشهوديْن، وطبع الحياة فيه باليأس والحطام والخذلان.
ومن منظورٍ يرى راهن سورية بهذه العين، يبدو الاكتراث بخبر إغلاق مكتبةٍ بسبب عُسر القدرة المالية على الإنفاق عليها، وشحّ الإيراد منها، فعلا متعاليا، وإنْ يقترب عمر هذه المكتبة من المائة العام، وإنْ كان اسمُها، النوري، شهيرا، وعنوانا يُحيل إلى تاريخ دمشقي طويل. أيُّ هناءة بالٍ، وأي دعةٍ في الحشايا، تسري في الأعطاف والبدن والعقل والروح، فتأخذُك، فيما سورية مغلقةٌ على مصيرٍ غير منظور بعد، لا يبعث على أي سرور، يُغالب الناس فيها صراع البقاء، والبحث عن النجاة من الطحن اليومي في اللهاث وراء أدنى سبل العيش، ويروْن قدّامهم وبين ظهرانيهم وحوش الإرهاب وقوى التسلط المتجبّرة في الحكم تتناوش على بقايا ما كان وطنا، ما كان أرضا واحدةً لجميع السوريين، قبل أن تتغوّل الكراهية، وتتسيّد الطائفية، وتنحطّ القيم، ويفترس الفقر 90% من الباقين في البلد الذي يقول أصحاب المكتبات المغلقة أخيرا إنهم خسروا جزءا كبيرا من قرّائهم في أثناء سنوات الحرب الراهنة. البلد الذي صحّ قول أحد القيّمين على واحدةٍ من المكتبات التي تجاهد من أجل بعض الصمود بعض الوقت إن من الترف والرفاهية أن يدعو الورّاقون والناشرون وبائعو الكتب الناسَ إلى اقتناء الكتب في هذه الظروف، فيما يكافح الناس من أجل تأمين القوت... ولكن، في الوُسع أن يقاوم الإنسان اليأس بالتسلّح بقليلٍ من الأمل، بانتظار خلاصٍ لا بد قادم، ولو بعد وقت. وسورية التي تعاقبت عليها في تاريخها الطويل حضاراتٌ ودولٌ غير قليلة لا يليق بها أن نفتقد فيها هذا القليل من الأمل، ولو بين ركام من الآلام ..
استرسلت السطورُ أعلاه في حكيٍ عن راهنٍ سوريٍّ معلوم، حكيٍ خيض فيه ربما للمرّة المليون، لكنه إغلاق مكتبة النوري في دمشق أملى على النفس رغبةً في استعادته مرّة أخرى، لا يبدو بعد أنها ستكون الأخيرة.