بشرية و"الحلقة المفقودة"
دائماً ما يبرز مصطلح "الحلقة المفقودة"، في مفاهيم عديدة متعلقة بالتاريخ البشري، سواء في البحث عن حضارات غابرة لم نعرف عنها شيئاً سوى من خلال تتبّع آثار آخر حضارة بارزة للعلن، أو في التفتيش عن بداية البشر وتطوّرهم. "الحلقة المفقودة" تصطدم بالعصر الجليدي الذي عرفته الأرض منذ نحو عشرة آلاف سنة، فما قبله يبقى مجهولاً أو غير واضح المعالم بحدّه الأدنى. الحلقة نفسها لا تزال متوارية عن الأنظار أمام جديد تقنيات العلم الحديث، لمعرفة حقيقة الوجود البشري على هذا الكوكب.
هذه الحلقة مفقودة أيضاً في مفاهيم محسوسة في يومياتنا الصغيرة والكبيرة. هناك حلقة مفقودة في عدم تفاعل أجزاء واسعة من العالم وتضامنه مع القضية الفلسطينية، خصوصاً أنها "تتميز"، وفقاً لمبادئه الخاصة، بكل المقوّمات التي "تؤهلها" لتتصدّر أولويات الأنسنة والسياسة والعدالة. تغيب هذه الحلقة في فهم جوهر التفاعل بين الأديان والثقافات أو بين المؤمنين دينياً وغير المؤمنين، وكأن الصدام حتمي وبديهي، فيما لا يتوجب عليه أن يكون كذلك. يختفي كل حرف من هذه الحلقة في بلدان، مثل لبنان، حين تُصبح العبثية فعلا سياسيا مرغوبا وأساسيا لبناء 24 ساعة من الجدال العقيم، الذي لا يوفّر كهرباء وماء وحقوقا بديهية.
"الحلقة المفقودة" موجودة في تفاصيل أصغر بكثير من العناوين المجتمعية، أي على مستوى فردي. هناك من يرفض الاعتراف بنجاح آخر، أو يفرح بسقوط من يعتبره غريماً. وهناك من يتصرّف وكأن العقل عدو التواضع أو خصم الاحترام، أو أنه منظّم لعمل الغريزة، لا الوعي. في كل لحظة من حياتنا هناك من يُضمر الشرّ، وهناك من يكتُم الخبث، وقلّة تتصرّف على قاعدة أن عمق الحياة كغاية مثلى أهم من الاضمحلال في زوايا التوظيف العقلي للغرائز.
لن يؤدّي هذا السلوك الفردي إلى نجاح ما وفقاً لما يظنّ أصحابه، بل سيفرض على أي كائنٍ تلقّي ضربات نفسية لن تسمح له بعيش حياة سوية. الأمر أشبه بثريٍ يملك كل شيء، لكنه يسعى إلى امتلاكٍ أكثر. سيقوده هذا الأمر إلى الجنون، وكأنه يرمي نفسَه في هاويةٍ من دون قاع. "الحلقة المفقودة" لهذا الشخص لا تنحصر باقتناع مصطنع ولا بحدود مزيّفة، بل بإدراك أن ما وصل إليه كافٍ، ولا يحتاج إلى أكثر من ذلك. "الحلقة المفقودة" هي كل خطوة إيجابية مفاجئة، تُلغي انقساما غبيا بين إنسان وآخر، وتفعّل مفهوم الوعي في عقل الإنسان. ما الذي سيحصل لنا في حال توقفنا عن رمي قاذوراتنا من السيارات، أو أوقفنا المصعد قبل تشغيله لأننا سمعنا خطواتٍ تقترب فنسمح للآتي بدخوله؟ ما الذي سيتغير إن توقفنا عشر ثوان أمام إشارة سير حمراء (لا وجود لها تقريباً في لبنان)، أو كنا هادئين في أي زحمة سير مفروضة على الجميع؟ ما الذي سيختلف لو كان تشجيعنا فريقا رياضيا أو تحيزنا السياسي أو انتماؤنا الديني أو هويتنا القومية والوطنية أكثر حضارية، كونه مهما بلغت أهميته، سيبقى أقل من رتبة الإنسان؟
لماذا على أفراد كثيرين أن يتجاوزوا "التفاخر" نحو "جنون العظمة"، وكأن "الأنا" تبحث عن عدو لتشغيل الغريزة وإشعال صراع بقاء لا جدوى منه ولا قيمة له؟ ألا يدرك كثيرون أن "الحلقة المفقودة" قد تكون التراجع إلى الخلف حين تكون جالساً والتفكير لثوان معدودة، قبل إبداء أي رد فعل تعود فيه إلى أول أحفاد النياندرتال؟ يحتاج المرء إلى التفكير ملياً بالحلقة المفقودة، خصوصاً حين يرى أن مآسي عدة في المجتمعات تنبع من أنانيةٍ مفرطة، لا بسبب ظروفٍ مستجدّة، ويتحجّج متخذو القرار فيها بأن "طبيعة الحياة هكذا" أو أن "الإنسان هكذا". لا كله كذب، الإنسان حين يضع إصبعه على زرّ الوعي، سيكتشف عالماً لم تكتشفه أليس في بلاد عجائبها.