بسمة قضماني اسمٌ سيظلّ في ذاكرة السوريين
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
من أصعب الأمور أن يكتب المرء في رثاء شخصٍ قريب منه، وجد فيه كل السمات المطلوبة التي تؤهله لأداء دور هام في خدمة شعبه ووطنه، إلا أنه رحل قبل الموعد، وفي أحلك الظروف وأقساها ... عشتُ هذه التجربة الأليمة مرّات عدة عقودا، وفي ظروف مختلفة؛ وها هي تتكرّر برحيل بسمة قضماني التي فرضت احترامها على الجميع، بمعارفها ومهاراتها اللغوية، وتواضعها وتفاؤلها، وبُعدها عن كل أشكال التعصّب، وحبها ووفائها لشعبها ووطنها.
تعرّفت إلى بسمة قضماني، بعد إخفاق مؤتمر الإنقاذ الذي انعقد في إسطنبول في 16 يوليو/ تموز 2911 ، بمبادرة من ناشطين سوريين في الداخل والخارج. وقبل هذا المؤتمر، كانت قد انعقدت مؤتمرات أخرى لم أشارك فيها، رغم أنّي تلقّيت دعواتٍ لحضورها؛ لأسباب عدة، من أهمها عدم قناعتي بقدرة مثل هذه اللقاءات العامة التي تجمع بين سوريين يجهل بعضُهم بعضاً على الخروج بقيادة كانت الثورة السورية في أمسّ الحاجة إليها في ذلك الوقت، فأمام تعاظم المظاهرات والاعتصامات واتساع نطاقها على الساحة السورية، وهي مظاهراتٌ كانت أشبه بالأعراس والكرنفالات تجمع بين شبان سورية وشابّاتها التواقين إلى الحرية من سائر الانتماءات المجتمعية السورية؛ توحّدهم الرغبة في مستقبلٍ مفتوح الآفاق، يضمن لهم وللأجيال المقبلة: الحرية، والتعليم الجيد، وفرص العمل، ومقوّمات العيش الكريم، فالأحزاب التقليدية التي كانت في الساحة لم تكن ترتقي إلى المستوى المطلوب، لضعفها وترهّلها وخلافاتها. ولم تكن غالبيتها قد حسمت أمرها، بل كانت ما تزال تراهن على امكانية الإصلاح بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على انطلاقة الثورة في مارس/ آذار 2011، هذا على الرغم من أن السلطة استخدمت منذ اليوم الأول العنف المتوحّش ضد المظاهرات السلمية، بغرض القمع والترويع.
فشل مؤتمر الإنقاذ لأسباب عديدة، في مقدمتها عدم الإعداد الجيد، والقراءة الخاطئة للموقف من الجميع تقريباً، الأمر الذي أدّى إلى انسحاب مجموعة من الشباب الكرد ممن اعتقدوا أن مسألة تغيير اسم الجمهورية متوقفةٌ على إرادة الحاضرين الذين كانوا في غالبيتهم قد جاءوا مصادفة، ولم يكونوا يعرفون بعضهم بعضا. وبعد أن نقلت وسائل الإعلام فشل الاجتماع في تحقيق مبتغاه، اتصل بي الشهيد مشعل تمّو مستفسراً عن أسباب الإخفاق، فوضعته في الصورة، وتمنينا معاً أن تصبح الأمور أفضل مستقبلاً. وفي حديثٍ جانبيٍّ مع بعض الأصدقاء على هامش المؤتمر، ومنهم نجيب الغضبان الذي كنت قد عرفتُه سابقاً في واشنطن، حيث شاركنا معاً في ندوةٍ عن سورية، وجرى التوافق بيننا على ضرورة أن يكون هناك لقاء مصغّر، يجمع بين عدد محدود من السوريين المناصرين للثورة ممن يعرف بعضُهم بعضاً، ويمتلكون من المؤهلات والقدرات المعرفية التي تمكّنهم من الحوار والتفاهم، ودراسة إمكانية تشكيل جسم يقود الثورة، سياسيا وإعلاميا على الأقل، وتحديد المعايير والآليات التي يمكن أن تساعد على تحقيق هذه الفكرة.
كانت بسمة قضماني نشطة، هادئة تلتزم بالقرارات التي كنا نتّخذها في المكتب التنفيذي، وتؤدّي المهام التي تكلّف بها على أكمل وجه
وانعقد اللقاء المقترح بعد نحو أسبوعٍ من إخفاق مؤتمر الإنقاذ، وجمع بين مجموعة من الأكاديميين السوريين من الداخل والخارج، والقسم الأكبر منهم كانوا ممن يعيشون في أوروبا والولايات المتحدة. في هذا اللقاء، تعرفت إلى بسمة قضماني التي لفتت انتباه المجتمعين، وفرضت احترامها عليهم يوماً بعد يوم، بهدوئها ووضوحها، وقوة منطقها وتواضعها، وخبرتها وقدراتها الأكاديمية في ميدان تحليل الأوضاع السياسية على المستويين، العربي والدولي، هذا إلى جانب شبكة علاقاتها الواسعة.
وبعد سلسلة طويلة مرهقة من الاجتماعات والاتصالات التي هدفت إلى توحيد جهود السوريين المساندين للثورة من مختلف الانتماءات السياسية والمجتمعية، جرى الإعلان عن تأسيس المجلس الوطني السوري في صيغته الأولى في 15 سبتمبر/ أيلول 2011، ثم بصيغته النهائية في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 2011؛ وتم التوافق بالإجماع على أن يكون برهان غليون الرئيس الأول للمجلس، ثلاثة أشهر، بموجب النظام الداخلي للمجلس الذي كنّا قد توافقنا عليه عند التأسيس.
وبدأ العمل الشاق؛ سفر شبه دائم، واجتماعات مستمرّة، واتصالات لا حصر لها. هذا إلى جانب اللقاءات مع الوفود الشعبية، ومتابعة أوضاع المهجّرين في الداخل والسعي إلى مساعدتهم ضمن حدود الإمكان، وضرورة متابعة أوضاع الجرحى، والعمل على تأمين المعالجة لهم؛ فالسلطة كانت قد أعلنت حربها على السوريين، وكان لدينا يوميا نحو عشرين شهيدا أو أكثر في ذلك الحين؛ بالإضافة إلى أعداد كبيرة من الجرحى. كما حاولنا قدر الإمكان توحيد مواقف الضباط المنشقّين الذين كانوا قد أعلنوا انشقاقهم عن الجيش الحر، فقد كانون يعانون من خلافٍ عقيم عميق بين مجموعتي العقداء والعمداء.
كانت بسمة نشطة، هادئة تلتزم بالقرارات التي كنا نتخذها في المكتب التنفيذي، وتؤدّي المهام التي تكلّف بها على أكمل وجه. كانت تترأس وفود المجلس في غياب برهان، تتعامل بدبلوماسية مهنية، تستخدم لغة واضحة مفهومة، لا تترك أي مجال للالتباس، تتحدّث الإنكليزية والفرنسية كالعربية بطلاقة تثير إعجاب من كنّا نقابلهم من وزراء الخارجية والدبلوماسيين. سافرنا معا إلى القاهرة مراراً، حيث كنا نلتقي مع المسؤولين في جامعة الدول العربية واللجنة العربية الخاصة بسورية. كما سافرنا معاً إلى دول عربية وأوروبية عديدة، وإلى أميركا وإقليم كردستان العراق. وشاركنا في اجتماعات ولقاءات وندوات عديدة في أماكن عدة.
كانت بسمة قضماني تهتم بالموضوع الكردي السوري، وتساهم بكل إيجابية في جهود جعله موضوعاً وطنياً سورياً عامًا يهم جميع السوريين
لم أشعر يوماً بأي تحيّز قومي أو مذهبي أو حتى مناطقي أو مديني لدى بسمة، وهي العربية السنّية الدمشقية. كانت تحرص على التواصل مع السوريين من جميع الانتماءات والتوجّهات والجهات. كانت تهتم بالموضوع الكردي السوري، وتساهم بكل إيجابية في جهود جعله موضوعاً وطنياً سورياً عامًا يهم جميع السوريين، وكانت لها صلاتٌ مع معارضين علويين إلى جانب المسيحيين والدروز، وكنا متفقين تمام الاتفاق على ضرورة فتح حوار جادٍّ مع العلويين المعارضين لسلطة بشار الأسد بغية طمأنتهم، وكسب تأييدهم للثورة، لمصلحة جميع السوريين.
ومع انتهاء فترة برهان، كان هناك اقتراح ضمن المكتب التنفيذي بانتخاب بسمة لتكون رئيسة للمجلس، على أمل أن تكون تلك الخطوة بمثابة رسالة تقدير للمرأة السورية وللشابّات السوريات اللواتي شاركن في الثورة بجسارةٍ غير عادية. وقد حاولت إقناع الإخوة في المكتب التنفيذي بذلك. وافق الجميع تقريبا على الفكرة ما عدا ممثل الإخوان المسلمين، وكانت الحجّة أن وضع الثورة الراهن لا يسمح بقيادة امرأة المجلس، فجرى التجديد لبرهان بناء على التعديل الذي كنا قد أدخلناه على النظام الداخلي في مؤتمرنا الأول الذي عقدناه في تونس في ديسمبر/ كانون الأول 2011.
وبعد استقالة برهان من رئاسة المجلس، توافق أعضاء المكتب التنفيذي والأمانة العامة على ضرورة أن أتحمّل المسؤولية من بعده في منتصف يونيو/ حزيران 2012، وهي مسؤولية اضطررت للقبول بها، رغم عدم استعدادي لها، فالظرف كان مُلزماً، ولم يكن هناك أي مجال للتنصّل. كان في ذهني أن نركّز جهودنا على ثلاثة أمور أساسية، إلى جانب موضوع مزيد من الانفتاح على القوى الأخرى في المعارضة السورية، لإقناعها بإلانضمام إلى المجلس، وهي: بذل الجهود من أجل توحيد الصف ضمن الجيش الحر، لقطع الطريق على خطر انتشار المليشيات بصورة فوضوية، الأمر الذي كنا نعرف أنه سيكلف الثورة السورية كثيراً، من جهة الاستقلالية والتعاطف الدولي، فالعمل العسكري، خصوصا بطابعه الإسلاموي الجهادي كان معناه إعطاء الذريعة للسلطة ورعاتها باستخدام القوة بحجّة محاربة الإرهاب، وهو الأمر الذي حدث بكل أسف، رغم أننا نبهنا إليه، وحذّرنا منه مراراً وتكراراً في وقت مبكر. الأمر الآخر، ضرورة تعميق العلاقة بين المجلس الوطني السوري والداخل والمخيمات. وقام المكتب التنفيذي بجولاتٍ على سائر المخيمات في تركيا وكردستان العراق، ولم نتمكّن من زيارة مخيمات الأردن ولبنان بكل أسف، ولكننا كنا نتابع أخبارهم عبر أعضاء المجلس في البلدين، ونقدّم لهم المساعدات ضمن حدود الإمكان. الأمر الثالث، ضرورة تقوية مكتب العلاقات الخارجية بقيادة بسمة قضماني، لأنها كانت الأكثر قدرة على أداء هذه المهمة بحرفية مدعومة بالمعرفة وشبكة العلاقات الدولية والعربية الواسعة.
قدّمت بسمة استقالتها من المجلس الوطني السوري، ولم تُطرد منه كما يروّج بعضهم، ولكنها ظلت مستمرّة في دعمها الثورة السورية على مختلف المستويات
ولكننا فوجئنا بحملة هجمات منظمّة عليها بتهم كيدية واضحة، منها اتهامها بالعلاقة مع اسرائيل، بناء على جواب لها في ندوةٍ شارَكت فيها ضمن برنامج تلفزيوني عام 2008. كان الموقف محرجاً للغاية، وكان عليّ باعتباري رئيس المجلس أن أتّخذ القرار، سيما بعد أن اتصل كثيرون بشأن الموضوع. تواصلت مع برهان، باعتباره يعرف بسمة في باريس منذ مدة طويلة، وكانت شهادته لصالحها، حتى أنه قال: لا أساس لهذه الاتهامات، وليس هناك أي شك في مصداقيتها الوطنية. كما ذكر لي إن معرفته ببسمة بدأت في باريس من خلال عملهما المشترك في مناصرة القضية الفلسطينية. ولكن ما حصل لاحقا أن أعضاء ضمن المكتب التنفيذي والأمانة العامة من اتجاهاتٍ متباينةٍ توافقوا، لأسبابٍ مختلفة، على عدم التجديد لبسمة في المكتب التنفيذي، الأمر الذي شكّل ضربة قوية للمجلس، وكان بداية سلسلة تداعيات وخلافات ضمن المجلس، أدّت لاحقاً إلى الإعلان عن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية بضغط دولي.
قدّمت بسمة استقالتها من المجلس، ولم تُطرد منه كما يروّج بعضهم، ولكنها ظلت مستمرّة في دعمها الثورة السورية على مختلف المستويات وبمختلف الأشكال. انتُخبت، في مؤتمر الرياض الأول لقوى الثورة والمعارضة السورية عام 2015، عضواً في هيئة التفاوض، كما شاركت في اللجنة الدستورية، وهو الأمر الذي عرّضها لاحقاً للانتقادات. ولكنها ظلت حتى الرمق الأخير مدافعة عن قضية شعبها، مؤمنةً بأن سورية لن تصبح موحّدة شعباً وأرضاً مع بقاء سلطة بشار الأسد.
رحلت بسمة عن الدنيا، ولكن اسمها سيظلّ متألقاً في ذاكرة السوريين، رغم كل حملات التجنّي الظالمة التي تعرّضت لها. تغمّدها الله بواسع رحمته، وتعازينا الحارّة لأسرتها وذويها وسائر محبّيها.
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.