الإدارة الأميركية المُقبلة والتحدّيات الكُبرى

17 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

بغضّ النظر عن نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية التي باتت على الأبواب، ستواجه الإدارة المقبلة جملةَ تحدّيات على المستويَين الداخلي والخارجي. على الصعيد الداخلي، يعاني المجتمع الأميركي من انقسامات حادّة تستدعي المعالجةَ لتجاوز الاستقطابات التي تشكّلت بفعل الخطابات الشعبوية التي اعتمدها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب وسيلةً لحصد مزيد من التأييد بين صفوف أصحاب التوجّهات العنصرية، والشرائح المحدودة الثقافة والدخل من الأميركيين البيض، الذين يشعرون بالتهميش والظلم نتيجة تزايد أعداد المهاجرين، وهيمنتهم على سوق العمل، واستحواذهم على الفرص، وتسبّبهم في انتشار الجريمة، وتهرّبهم من الضرائب... إلى ما هنالك من تفسيرات غير واقعية، يجد فيها ترامب مادّةً حيويةً يعتقد أنّها ستمكّنه من خلال إثارتها وتكرارها وكأنّها حقائق مُسلّم بها، من دون أيّ سند بحثي أو إحصائي موضوعي، من كسب تأييد أوساط شعبية واسعة تستسيغ عملية تحميل الغرباء مسؤوليةَ معاناة أبناء الوطن، الذي يحتاج إلى استرجاع عظمته.
ولا يخفى في هذا السياق أنّ هذا التوجّه الترامبي الشعبوي، الذي اتّخذ من المهاجرين القادمين من أميركا اللاتينية ومن الآسيويين والأفارقة والمسلمين أكباشَ فداءٍ على مذابح الإخفاقات وتصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين، قد تحوّل قوّةً دافعةً للجهات الشعبوية التي يُشجّعها الخطاب اليميني المُتطرّف في الدول الأوروبية، الشرقية منها والغربية، بل امتدّ هذا التأثير إلى خارج القارّة الأوروبية، ليكون وسيلةً مبتذلةً لكسب الأصوات عبر التناغم مع العواطف العنصرية. وليس سرّاً أنّ هذه من آفات كبرى تعاني منها الأنظمة الديمقراطية بصورة عامة في العالم، ولا سيّما الهرمة منها، التي تحتاج إلى التجديد بترسيخ أسس التربية الديمقراطية في المنزل، ونشر الثقافة الديمقراطية الجادّة عبر المدرسة ووسائل الإعلام، ووضع حدّ للهجمات الإعلامية التي تستهدف الأفراد والجماعات من المكوّنات المجتمعية والثقافية الأقلّ عدداً، قياساً إلى المكوّنات التي تمثّل الغالبية العددية لا السياسية، التي تعتبر ركيزة النظام الديمقراطي. هذا في حين أنّ الركون إلى الغالبية العددية يفتح الطريق أمام التوجّهات الشمولية الاستبدادية المختلفة، لا سيّما القومية والدينية منها. أمّا التحدّيات الخارجية التي تواجه الولايات المتّحدة، فهي كثيرة تتمثّل بصورة خاصّة في الدول الاستبدادية، التي تحنّ إلى دور القوّة العظمى، أو تعمل من أجل بلوغ مستوى القوّة العظمى، ويُشار هنا على وجه التحديد إلى كلّ من روسيا والصين.

لم تعد روسيا تمثّل قوّة منافسةً للولايات المتّحدة، ورغم امتلاكها ترسانةً نوويةً، فإنه يدور حولها كثير من الشكوك بشأن فعّاليتها

فروسيا ما زالت تحلم بالماضي القريب الذهبي أيّام الاتحاد السوفييتي، يوم كان الحزب الشيوعي يتفاخر بأنّ عدد أعضائه نحو 20 مليوناً، وكان يتحكّم في الأحزاب الشيوعية والعمّالية في المعسكر الاشتراكي، وفي قسم كبير من الدول النامية في آسيا وأميركا اللاتينية وأفريقيا، التي كانت تقتدي بالاتحاد السوفييتي، وتعتبر موسكو القِبلة الأممية. وفجأة سقطت القلعة الحمراء ليكتشف المريدون خواءها وهلاميتها. تباهى الاتحاد السوفييتي يوماً بأنّه سيحكم العالم، وبأنّ الرأسمالية هي في نهاية المطاف ستزول نتيجة تناقضاتها الداخلية، خاصّة التناقض الأساس بين أسلوب العمل الجماعي والملكية الخاصّة لوسائل الإنتاج. ولكنّ ما حدث أنّ النظام الاشتراكي سقط نتيجة تراكمات الفساد والاستبداد، في حين أثبت النظام الرأسمالي قدرته على تجديد ذاته بفعل جملة عوامل، من أهمّها الحرّيات التي كانت تشجّع روحية الإبداع لدى المواطنين.
اليوم، وبعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على سقوط الاتحاد السوفييتي، نلاحظ أن روسيا رغم مواردها الضخمة وأراضيها الواسعة، ما زالت تعاني تخلّفاً مذهلاً في ميدان التكنولوجيا، واستنزافاً متوحّشاً للموارد من مجموعة من المسؤولين، ومن مافيات المستفيدين. هذا إلى جانب قمع أصوات المعارضين، واعتماد أشرس الطرائق لإسكاتهم، أو إخراجهم من دائرة التأثير في الفضاء العام، أو تغييبهم بصورة نهائية. وجاءت الحرب على أوكرانيا لتكشف النقاب عن مزيد من المثالب. أراد فلاديمير بوتين أن يستعيد عظمة الاتحاد السوفييتي أو عظمة القيصرية، لتكون روسيا مُجدّداً قوّةً عظمى ندّاً لأميركا، وللدول الغربية مجتمعة، لكنّ ما حصل معه في أوكرانيا أثبت أن قدرات روسيا لا تتجاوز قدرات دولة إقليمية متوسّطة الإمكانات، وهي اليوم في حاجة إلى التكنولوجيا العسكرية والأسلحة من كوريا الشمالية، ومن إيران، وربّما من بيلاروسيا، وغيرها من الدول التي كانت أعضاءَ المعسكر الشرقي أو تدور في فلكه.
فحتّى التكنولوجيا العسكرية، التي كان النظام الروسي يحرص على التباهي بها، خصوصاً حينما كان يجرّبها على المدنيين السوريين المغلوبين على أمرهم، تبيّن أنّها كانت مُجرَّد عدة شغل الغاية منها العرض والاستعراض وادّعاء القوّة أمام التكنولوجيا الغربية في هذا المجال. وما يجري في أوكرانيا منذ أكثر من عامَين يُؤكّد ذلك. فإلى جانب شجاعة الأوكرانيين، مكّنت التكنولوجيا العسكرية الغربية الجيش الأوكراني من مقارعة الروس في عقر دارهم. وجميعنا نعلم مدى حجم أوكرانيا قياساً إلى حجم روسيا الكبير، والكبير جدّاً، وإمكاناتها البشرية والاقتصادية، التي لا سبيل لعقد مقارنة بينها وبين ما تمتلكه أوكرانيا. ومع ذلك، لم تتمكّن روسيا على مدى أكثر من عامَين من تغيير الموازين على الأرض بصورة نوعية لمصلحتها.
وبناء على هذه الوقائع، يستنتج المرء أنّ روسيا لم تعد بأيّ شكل من الأشكال تمثّل قوّة منافسةً للولايات المتّحدة، رغم أنّها تمتلك ترسانةً نوويةً، ولكن حتّى هذه الترسانة يدور حولها كثير من الشكوك والجدل بشأن حقيقة فعّاليتها، وقدرتها الردعية، قياساً إلى ما تمتلكه أميركا وحليفاتها من الدول الغربية.
وتبقى الصين القوّة الأكثر أهمية، التي تتحسّب الولايات المتّحدة لصعودها ولتقدّمها في سائر المجالات بألف حساب وحساب. فبالإضافة إلى القوّة الاقتصادية المتعاظمة للصين بفعل استفادتها من الأيدي العاملة الرخيصة المعروفة بصبرها وقدرتها على تحمّل الصعوبات في العمل، إلى جانب خضوعها للأوامر الصارمة الصادرة عن القيادة الشيوعية للبلاد، بل عن شي جين بينغ شخصياً، الذي تمكّن من فرض سلطته المطلقة على مفاصل الدولة الصينية كلّها، واعتمادها في الوقت ذاته على التكنولوجيا الغربية المتطوّرة، التي حصلت عليها بطرق عدّة بأبخس الأثمان، أو من دون أيّ مقابل، وذلك قبل أن تتّخذ الولايات المتّحدة وعدد من الدول الغربية الإجراءات المتشدّدة للحيلولة دون وصول التكنولوجيات الغربية المتطوّرة إليها. ولكن يبدو أنّ هذه الإجراءات جاءت متأخّرةً بعض الشيء، إذ تمكّنت الصين، بعد عقود من تراكم المعارف والخبرات لديها، من التقدّم في مختلف الميادين، سواء في المجال الاقتصادي أو العسكري أو الذكاء الاصطناعي. وأصبحت من أشدّ المنافسين للدول الأوروبية في مجالات تصنيع السيارات البيئية، ووسائل الاتصالات. وهي اليوم تعمل من خلال مبادرة الحزام والطريق على دمج أفريقيا بمجالها الحيوي الاقتصادي، عبر تقديم القروض والمساعدات إلى الدول الأفريقية لبناء البنى التحتيّة المطلوبة لتطوير الطرق والموانئ، وتنفيذ المشاريع الاقتصادية. وهناك محاولات صينية للوصول إلى منطقة الشرق الأوسط بغية الاستفادة من أسواقها ومواردها النفطية، وهي تستعدّ لاستغلال الفراغ الذي يمكن أن يحدث نتيجةَ الانسحاب الأميركي والغربي عموماً من المنطقة، أو تخفيف الوجود فيها.
وقد كانت الخطوة الصينية الخاصّة بإصدار البيان السعودي الإيراني من بكين، بالإضافة إلى التوسّط بين الفرقاء الفلسطينيين، وغيرها من الخطوات، من الأمور اللافتة التي تعكس وجود رغبة صينية في توسيع دائرة النفوذ، وتمتين العلاقات مع الأسواق الواعدة، والدول التي تمتلك مواردَ معدنيةً وثرواتٍ هائلةً على صعيد النفط والغاز تحتاجها الصناعة الصينية. وضمن هذا الإطار، يُلاحظ حرص الصين على تحديث ترسانتها العسكرية، وزيادة حجمها، إلى جانب نشاطاتها في مجال الفضاء عبر الأقمار الصناعية ومركبات الاستكشاف.

تبقى الصين القوّة الأكثر أهمية التي تتحسّب الولايات المتّحدة لصعودها ولتقدّمها في سائر المجالات بألف حساب وحساب

من جهة أخرى، تشكو الصين باستمرار من تحرّكات أميركا المريبة بالنسبة إليها في جوارها، بالتعاون مع حليفات واشنطن في المنطقة، مثل كوريا الجنوبية، والفيليبين، وأستراليا، واليابان. هذا، بينما تحاول الهند، رغم خلافاتها العميقة مع الصين، الحفاظ على استقلاليتها، والابتعاد قدر الإمكان عن الاصطفافات الإقليمية والدولية، وذلك ربّما استعداداً لدور ريادي يتناسب مع حجم الهند وخططها المستقبلية الطموحة.
إلى جانب هذه التحدّيات التي ستواجهها الإدارة الأميركية المقبلة، هناك تحدّيات أخرى كبيرة تخصّ المناخ والصّحة والفقر وغيرها من التحدّيات بنتائجها الكارثية. والسؤال المحوري، بخصوص التحدّيات المشار إلى قسم منها، هو هل تستطيع الخطابات الشعبوية مقاربة هذه المسائل الجادّة المعقّدة، ووضع الحلول المستدامة لها؟ أم أنّ الموضوع برمته يحتاج إلى مراجعة شاملة في ضوء التطوّرات والمتغيّرات التي كانت على المستوى العالمي في آخر ثلاثة عقود؟ أم لم تعد الحلول الترقيعية قادرة على معالجة قضايا استراتيجية تستوجب حلولاً استراتيجية، تتعاون مختلف الدول في ما بنيها من أجل الوصول إلى حلول مناسبة بشأنها؟
ذلك كلّه يتطلّب تحديث المؤسّسات الأممية، لا سيّما الأمم المتّحدة، بغية إفساح المجال أمام المشاركة العادلة لممثلي جميع القارّات والتجمّعات الإقليمية والدول في اتخاذ وتنفيذ القرارات بشأن الصراعات والأزمات المفتوحة، والمشكلات المزمنة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر النزاع العربي الإسرائيلي، والأزمات السورية واليمنية والليبية والسودانية واللبنانية، وغيرها الكثير من الأزمات والنزاعات في أفريقيا وأميركا اللاتينية. والأمر اللافت هنا أنّ القاسم المشترك بين هذه الأزمات والنزاعات كلّها يتجسّد في أنّها عميقة مُؤثّرة، تهدّد الدول والمجتمعات على المستويين البنيوي والوجودي.

8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا