بريغوجين أو الحاجة إلى شكسبير
لمّا ذاعت، صيف العام 2008، قصة تكليف رجل الأعمال المصري، هشام طلعت مصطفى، ضابطَ أمن سابقا في بلاده بقتل معشوقته اللبنانية، المغنيّة سوزان تميم، مقابل مليوني دولار، في دبي، بعد تهديداتٍ (وإغراءاتٍ مالية؟) منه لزوجها العراقي (الثالث)، إبّان مقامها في لندن، وقد كان من هداياه لها حزامٌ من الذهب، لمّا ذاعت هذه القصة، بعد جريمة القتل وحبس المحرّض والفاعل، قال الروائي المصري الراحل، محمد البساطي، إنها تحتاج دوستويفسكي ليكتُبَها. ... قياسا، تحتاج قصة لصّ المنازل السابق، صاحب شركة فاغنر لمرتزقة الخدمات العسكرية، الروسي يفغيني بريغوجين، شكسبير ليكتُبها. تأخذُك نهايتُه مقتولا، عن 62 عاما، في مروحيّةٍ، فاخرةٍ وفي صيانة جيّدة على ما قرأنا، شهريْن بعد "تمرّده" على جيش بلادِه وجنرالاته، وعلى الرئيس بوتين بداهةً، إلى منزعٍ شكسبيريٍّ في شخص هذا الرجل، فترى الواقعةَ مدبّرةً.
ليس فقط تُسعفنا "الإيكونوميست"، في "البروفايل" الذي نشرَه فيها بول وود في يونيو/ حزيران الماضي، بإضاءاتٍ مثيرةٍ، درامية، عن الرجل البغيض بريغوجين (هكذا بالضبط نعتَه العنوان)، وإنما أيضا سألَت ما إذا كان هذا سيصير رئيسا لروسيا، وجاءت على إشاراتٍ في الصحافة الروسية ذهبت إلى هذا التقدير، ونقلَت عن مسؤولةٍ سابقةٍ في مجلس الأمن القومي الأميركي قولها إن من المحتمل أن بريغوجين لم يكن يرى رئيسَه بوتين قويا، وإن الأخير كان يستشعر سؤالا يجوسُ في حشايا طبّاخه السابق: لماذا لا أكون أنا الرئيس؟
تُراه تزيّد ذلك الصحافي في المجلة البريطانية العتيدة، لمّا جال في دماغ بريغوجين، فكتب هذا من بين كثيرٍ كتبَه عمّن صار قتيلا بعد عشرة أسابيع؟ انكتب هذا أياما قبل التمرّد العسكري المعلن الذي أقدم عليه هذا الرجل الذي درس التزلّج في كليةٍ رياضية، وتمرّن عليه وتمرّس فيه بعض الوقت، قبل أن يُغادره إلى سرقة ما خفّ وزنُه من البيوت والشقق (كؤوس الشراب مثلا) في ليننغراد (اسم بطرسبورغ إبّان الاتحاد السوفييتي)، وليرتكب جرائم صغرى وكبرى في الأثناء، تأخُذه إحداها إلى السجن تسع سنوات. ثم يطوي تلك الصفحات، ويمضي إلى بيع النقانق وصلصة الخردل، وكانت تعدّهما والدتُه في مطبخ منزله، ليساعده مالٌ أحرزَه على فتح مطعمٍ ثم آخر، قبل أن يتيح له ما باتت فيه روسيا مع انتهاء الاتحاد السوفييتي أن يعرف سبل الكسْب الكثير والعبور إلى الطبقات العليا، ثم يُصبح متعهّد الطعام المفضّل للرئيس بوتين في المناسبات الرسمية الكبرى، وليقدّم إلى زائر الكرملين، جورج بوش الابن، وجبةً مُتقنة، لم يتناول فيها الأخير غير شريحة لحم. ينعطفُ الطاهي البارع، والذي أصبح من بطانة بوتين الموثوقة، إلى الارتزاق في صناعة مليشيا مسلّحة، تأخذ اسم فاغنر لاحقا. أما كيف ولماذا، فلا تفاصيل كافيةً في هذا، غير أن الذي صار عليه السارق السجين سابقا في هذه المليشيا معلوم. كان مدخلُه الأهم الذي ساقه إلى النجاح مهمّات المليشيا في سورية، وإنْ قَتَل الأميركان مائة من عناصرها هناك بسبب "حماقةٍ" من بريغوجين "الموهوب الذي يرتكب أخطاء"، على ما وصفه محقّا بوتين، لمّا نعاه.
لعل واحدةً من أعظم مزايا شكسبير، سيّما في مسرحياته التي اعتنت بدواليب الحكم ومؤامراته ودسائسه، أنه التفتَ كثيرا إلى أخطاء الأذكياء والطموحين، إلى الشرّ الذي يغلب الموهبة، فكانت أعمالُه التراجيدية شديدة الثراء في تشخيص حشايا النفس وأسئلة الذات عندما تلعب الصراعاتُ في بلاط القصور من أجل التاج. عاين دارسو المسرحيّ الثقيل القيمة كثيرا من هذا في "ريتشارد الثالث" و"هنري الرابع" وغيرهما من تاريخيّاته. وفي "ماكبث"، شاهدْنا ملكا شجاعا وقويّا وطموحا انتهى قتيلا، بعد أن أحرز المُلكَ بقتل الملك الشرعي وشهود فعلته. وللشخصيات في أعمال شكسبير أوجهٌ وزوايا وأبعادٌ عديدة، وعويصةٌ غالبا. كان يعجن مصائر البشر الذين يصوغُهم صدورا عن إدراكِه تعقيد الشخصية الإنسانية، فبنى تراجيديّاته وكوميديّاته، قبل أزيد من أربعة قرون، بحاسّته شديدة الوعي تلك، فما زال قلق هاملت، وأرق الملك لير، وانتحار روميو، في مواضعَ خالدةٍ في آداب الإنسانية ... أما بريغوجين فمقتلُه من "كوميديا الأخطاء" (مسرحية لشكسبير) التي ذهب إليها بنفسِه، بعد سيرةٍ حفلت بكثير مما يصلُح لمسرحيةٍ شكسبيريةٍ شائقةٍ لم تنكتب، كيف لا وفيها الموتُ قتلا في طائرةٍ تهوي، بعد بيع النقانق وسرقة كؤوس الشراب والطهي لجورج بوش ... وبناء "فاغنر".