بايدن محدّثاً صفقة القرن
عبرت جولة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى المنطقة وبشكل صريح عن تحديثه صفقة القرن لدونالد ترامب رغم ادعائه القطع مع إرث سلفه تحديداً في ما يتعلق بصفقة القرن والسياسة الأميركية في المنطقة عموماً. وللتذكير، تضمّنت خطة ترامب التي سمّيت صفقة القرن بعدين، فلسطيني وإقليمي، للأول شقّان، سياسي واقتصادي، حيث سعت الصفقة سياسياً إلى حل، أو للدقة تصفية، القضية الفلسطينية عبر تبنّي الرواية الإسرائيلية في أبعادها المختلفة الدينية والتوراتية والتاريخية من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل، والموافقة على ضمّها ثلث الضفة الغربية، بما فيها منطقة الأغوار "خزان غذاء ومياه الفلسطينيين"، كما المستوطنات حتى تلك النائية وغير القانونية وفق التعريف الإسرائيلي. وفي المقابل، لم تمانع إقامة دولة فلسطينية كرتونية سموها فلسطين الجديدة على ما تبقى من نصف الضفة الغربية غير متواصلة جغرافياً، وإنما بجسور وأنفاق وخاضعة تماماً للهيمنة الإسرائيلية في الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية في صيغة بدت أقرب إلى حكم ذاتي موسع "زائد" أو دولة "ناقص" حسب التعبير الشهير لرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو.
البعد الفلسطيني للصفقة تضمن شقاً اقتصادياً أيضاً لتعويض الفلسطينيين في ما يشبه الرشوة لقبول الشق السياسي والتنازل عن حقوقهم وثوابت قضيتهم عبر مساعدات ضخمة بمليارات الدولارات، مع إغراءات مالية ضخمة لدول عربية، مثل مصر والأردن فيها (لبنان بدرجة أقل) لتوطين اللاجئين وإقناع الفلسطينيين بقبول الخطة والتساوق معها أو على الأقل عدم عرقلتها.
في البعد الإقليمي، لحظت الصفقة التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل وفق ما سمّيت بالاتفاقيات الإبراهيمية بمعزل عن القضية الفلسطينية، وضد المبادرة التي قبلتها الدول العربية مجتمعة في قمة بيروت (2001) وإقامة تعاون سياسي واقتصادي وأمني ثنائي وجماعي، بحجة حماية تلك الدول من الاعتداءات الإيرانية، ولملء الفراغ الناجم عن رغبة ترامب في الانكفاء عن المنطقة وتقليص الحضور الأميركي فيها، مع الحصول على منافع اقتصادية وشخصية "له ولشركاته" وعامة لبلاده عبر صفقات بمليارات الدولارات مع الدول العربية.
حدثت خلال العام المنصرم عدة تطورات أدت إلى تغيير إدارة بايدن قناعاتها تجاه إرث ترامب منها رغبتها في العودة للاتفاق النووي مع إيران
أدّى الرفض الفلسطيني واصطفاف الساحة السياسية برمتها من الجدار إلى الجدار إلى إسقاط البُعد الخاص بهم، بشقيّه السياسي والاقتصادي. ولذلك عوقبت السلطة من إدارة ترامب، وفرضت عزلة سياسية عليها، وقطعت المعونات المالية عنها وحتى الضغط على دول عربية مطبّعة وغير مطبّعة لتبني سياسات مماثلة.
خسر ترامب الانتخابات الرئاسية، ودخل بايدن البيت الأبيض قاطعاً مع إرث سلفه تحديداً الشرق الأوسطي، وأزاح عملياً صفقة القرن عن جدول الأعمال، عبر استئناف التواصل مع السلطة، والتأكيد على حل الدولتين، باعتباره الخيار الواقع من أجل مصلحة إسرائيل نفسها صهيونياً منتمياً إلى التيار المركزي وصديق يسعى إلى مساعدة الدولة العبرية وإنقاذها من نفسها، كما يطالب اليساريون الإسرائيليون دوماً ولوبي "جي ستريت" المنتمي للتيار الصهيوني المركزي، والقريب جداً من حزب بايدن الديمقراطي.
في السياق، تعامل بايدن ببرود مع الاتفاقيات الإبراهيمية والتطبيع العربي الإسرائيلي كونها إرث ترامب، ولتعمدها تجاوز القضية الفلسطينية حيث استوعبت الإدارة ما فهمه حتى رئيس الوزراء الإسرائيلي يئير ليبد الذي كان قد قال في سياق التوصيف لا النقد إنّ صفقة القرن سعت أساساً إلى تجاوز وتهميش حلّ الدولتين والقضية الفلسطينية. وفي رفض إرث ترامب وصفقة القرن وصلت الإدارة الجديدة حتى إلى حدّ رفض وزارة الخارجية استخدام المصطلح الإبراهيمي في مكاتباتها الرسمية. ولكن حدثت خلال العام المنصرم عدة تطورات أدت إلى تغيير إدارة بايدن قناعاتها تجاه إرث ترامب منها رغبتها في العودة للاتفاق النووي مع إيران، واستئناف المفاوضات معها ضمن مواصلة سياسة الانكفاء شرقاً عن المنطقة التي أطلقتها أصلاً إدارة باراك أوباما الديموقراطية (خدم فيها بايدن ومعظم فريقه)، وواصلها ترامب بشكل فظّ وخشن وغير مرتب في صفقة القرن والاتفاقيات الإبراهيمية، ورفض إسرائيل وحلفائها العرب تلك العودة، خصوصاً مع سياسات أخرى لإدارة بايدن تجاوزت فيها عن ممارسات إيران وأذرعها الإقليمية بما فيها رفع جناحها اليمني الحوثي من لائحة الإرهاب.
عمد بايدن إلى تطوير صفقة ترامب إقليمياً عبر السعي إلى التطبيع بين السعودية وإسرائيل ولو بشكل تدريجي وبطيء ولكن مستمر
من تلك التطورات أيضاً الانسحاب المهين من أفغانستان، وتأثيره على صورة أميركا وصعوبة مواصلة الانكفاء، وكأنّ شيئاً لم يكن مع تجرؤ خصومها وأعدائها. إضافة إلى ذلك، يمكن الإشارة إلى هبة القدس وحرب غزة التي أكدت استحالة النأي بالنفس عن القضية الفلسطينية والاكتفاء بمتابعتها عن بعد عبر التواصل السياسي مع السلطة وإعادة الدعم المالي الجزئي لها.
غير أنّ القطرة التي أفاضت الكأس بالنسبة لإدارة بايدن تمثلت بالغزو الروسي لأوكرانيا وتداعياته على التوازنات السياسية والإقليمية والعالمية، وتأثيراته السلبية على ارتفاع أسعار النفط والتضخم العالمي، حتى في أميركا نفسها على أعتاب انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، مع التذكير بالعبارة الشهيرة القائلة إن تصويت المواطنين الأميركيين مرتبط مباشرة بالثمن المطلوب لملء خزانات وقود سياراتهم.
أدّت المعطيات السابقة، مجتمعة، إلى تغيير الإدارة قناعاتها، وعادت إلى الاهتمام والسعي إلى ترتيب شؤون المنطقة. وفي السياق، تبنّي صفقة القرن، ولكن بتحديث ما يتعلق أساساً بالبعد الفلسطيني ومواصلة الانطلاق في الشق الإقليمي من حيث انتهى ترامب.
فلسطينياً، لا سعي أميركياً للحلّ، ولا تقديم رؤية ومبادرة أو تعيين مبعوث رسمي لاستئناف المفاوضات، كما كانت الحال مع جورج ميتشل ثم مع جون كيري شخصياً، لكن، في المقابل، لا تجاوز أو تجاهل للسلطة الفلسطينية، بل احتضانها، أو احتواؤها للدقة والتواصل الدائم معها، والتأكيد الدائم على حل الدولتين، ولو نظرياً، باعتباره الحل الأفضل، حتى لو يكن محل حديث واهتمام الآن، كما قال بايدن حرفياً لحظة وصوله إلى إسرائيل، هذا بموازاة دعم مالي سخيّ أميركي وأوروبي وعربي، والتوسط مع إسرائيل لإبقاء القنوات مفتوحة مع رام الله، لتحسين أوضاع الفلسطينيين اقتصادياً واجتماعياً في غياب الأفق السياسي (حل الدولتين)، كما أقر أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، حسين الشيخ، في مقابلته مع "نيويورك تايمز" أخيرا. مع ضمان عدم تشويش الفلسطينيين على السياق الإقليمي كما فعلوا ماضياً، انطلق بايدن من حيث انتهى ترامب، لدعم التطبيع الإسرائيلي مع الإمارات والبحرين والمغرب، بينما كان حضور وزير خارجيته أنتوني بلينكن قمة النقب "سديه بوكير" على مستوى وزراء الخارجية، مارس/ آذار الماضي، لدعم التطبيع والاتفاقيات الإبراهيمية بشكل مباشر، بعدما رفض حتى استخدام المصطلح في مكاتبات وزارته.
تسريع اندماج إسرائيل إقليمياً ضمن هندسة أو إطار ما برعاية وإشراف أميركي عسكري من القيادة المركزية
عمد بايدن كذلك إلى تطوير صفقة ترامب إقليمياً عبر السعي إلى التطبيع بين السعودية وإسرائيل ولو بشكل تدريجي وبطيء ولكن مستمر لتشجيع الرياض على ضخ مزيد من النفط الى السوق، وبالتالي، تخفيض الأسعار. ومن جهة أخرى، تسريع اندماج إسرائيل إقليمياً ضمن هندسة أو إطار ما برعاية وإشراف أميركي عسكري من القيادة المركزية التي تضم الدول العربية وإسرائيل، والتنسيق في ملفات مختلفة، مثل منظومات الدفاع الجوي ضد الصواريخ والطائرات المسيّرة من دون أن يصل الأمر إلى تحالف سياسي وعسكري وأمني، مع تشجيع للتعاون الاقتصادي الثنائي، كما هو حاصل بين الإمارات وإسرائيل، وبدرجة أقل السعودية، وانخراط واشنطن مباشرة في الإطار الرباعي مع الهند وإسرائيل والإمارات، ضمن الترتيب أيضاً لعمل إقليمي يلحظ عدم ملء الفراغ من الخصوم وتخفيف تداعيات أو آثار الانكفاء الأميركي شرقاً.
في كل الأحوال، سيواصل بايدن الانكفاء عن المنطقة، وفي السياق مساعي العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، لكن مع محاولات مستمرّة لطمأنة الحلفاء وتقديم ضمانات بعدم حدوث فراغ أو تشويش فلسطيني على الهندسة الإقليمية المستهدفة لا سياسياً من الضفة ولا عسكرياً من غزة.
وعموماً، لا شيء يعبر عن المعطيات والاستنتاجات السابقة أكثر، وأبلغ من سفر بايدن مباشرة من فلسطين المحتلة إلى السعودية، بعدما سافر سلفه ترامب من الرياض إلى القدس المحتلة، إذ بدا ببساطة كأنّه يغلق الدائرة، ويكمل ما بدأه ترامب، رغم كلّ ما قاله ويقوله عن القطيعة مع إرثه.