بادانتير من إلغاء حكم الإعدام إلى إعدام شعب
سجّل التاريخ الفرنسي الحديث اسم المحامي روبير بادانتير كالانسان الذي عمل على إلغاء حكم الإعدام في فرنسا إبّان الولاية الرئاسية الأولى لفرانسوا ميتيران في 17 سبتمبر/ أيلول 1981، التزامًا بوعد ميتران نفسه إبّان حملته الانتخابية. وقد شهد البرلمان الفرنسي مرافعة المحامي بادانتير، والذي اختاره ميتران وزيرًا للعدل بين عامي 1981 و1986، لإعلان هذا التحوّل التاريخي الذي، وإن استُفتي العامة عليه، فلن يحصل على إجماع الرأي حوله. وقد شكّلت مرافعته درسًا تاريخيًا في الديمقراطية، حيث ارتباطها أساسًا بحقوق الإنسان، وليس، بالضرورة، حصر ارتباطها بالتصويت وصناديق الاقتراع. وكذا، أثبتت هذه الواقعة بأنه مطلوبٌ من القائمين على صياغة القوانين أن يتمتّعوا، ليس بالقدرة التقنية والتشريعية المناسبتين فحسب، بل وأيضًا، بالوعي الإنساني العالي. وفي ما يخصّ العالم العربي، فقد ندّد بادانتير بإعدام الرئيس المخلوع صدّام حسين، لسببين رئيسيين، بأن هذا الإعدام قد حرم العدالة من محاكمة صدّام على جرائم عدّة، وبأنه سيكون سببًا لتأجيج الانشقاق في المجتمع العراقي والرغبة في الانتقام التي ستؤثّر على الاستقرار في العراق.
صار هذا الإنجاز الذي ارتبط باسم روبير بادانتير علمًا في التشريعات الأوروبية التي سرعان ما تبنّته. وصارت أوروبا عمومًا تسكّ القوانين التي تلغي الحكم بالإعدام. وصار لهذا الإلغاء فلسفته القانونية والإنسانية التي طغت على القوانين الوضعية والدينية التي كانت سائدة.
تزوّج بادانتير، والذي ارتبط اسمه بأهم التشريعات ذات الحمولة الإنسانية في القرن العشرين، سنة 1961 من الفيلسوفة المختصة بعصر الأنوار وحقوق المرأة، إليزابيت بلوشتاين. وقد زاولت التدريس، خصوصًا في حقل الإنسانيات. وكباحثة، اهتمّت بالتعمّق في أبعاد الذكورية والنسوية، حيث أضحت رمزًا مهمًا في مجال النضال النسوي على المستويين، الأوروبي والعالمي. ومع تقدّمها بالعمر وبالشهرة، صارت أيضًا من رموز النضال العلماني الذي برز خصوصًا في دعمها منع حجاب الفتيات في المدارس وفي الدفاع عن نشر الرسوم المسيئة للرموز الدينية الإسلامية. وقد طوّرت أدبيات واضحة في نقد تهمة "الرهاب من الإسلام"، مُعتبرةً أنها هرطقة وأسلوبٌ ملتوٍ لرفض العلمانية.
فيلسوفة النسوية الأهم على قيد الحياة، خرجت على الإعلام أخيراً لتأييد عمليات القتل الإسرائيلية في غزّة من دون أي تحفّظ
شريكة حياة صاحب أهم التشريعات الإنسانية في القرن العشرين، وفيلسوفة النسوية الأهم على قيد الحياة، خرجت على الإعلام أخيرا لتأييد عمليات القتل الإسرائيلية في غزّة من دون أي تحفّظ. لا ترى السيدة بادانتير، والتي تترأس عدة جمعيات مهتمة بالسلام ونشر قيمه، أي رادع أخلاقي أو إنساني في ما يخصّ قتل المدنيين الفلسطينيين. تبريرها الأساسي، أن ذلك يجري في ظل حقٍ طبيعيٍ في الدفاع عن النفس أمام "إرهاب" المتطرّفين الإسلاميين في حركة حماس، والذين قارنتهم عناصر تنظيم الدولة الإسلامية. وفي حديث متلفز، نوّهت بالبعد الأخلاقي الذي تتمتّع به القوات الإسرائيلية التي تقوم، حسب زعمها، بإعلام المدنيين قبل قصفهم، وتدعو آخرين منهم إلى المغادرة باتجاه مصر وهم يرفضون المغادرة، أو أن "حماس" تستخدمهم دروعا بشرية. وأخيرا، رفضت الدعوة إلى وقف إطلاق النار مقارنةً هذا الطلب بالطلب بوقف إطلاق النار في أوكرانيا، وبالتالي، تتم معاملة المعتدي والمعتدَى عليه بالتساوي. وبالنسبة للسيدة الإنسانية، فالمعتدي هو الفلسطيني. وهاجمت بشدة كل أشكال التضامن مع غزّة ومدنييها، لأنها تعتبر أن هذا الموقف يُخفي تأييدًا لـ"حماس"، لتخلص إلى أنه من أنواع معاداة السامية المتجدّدة.
السؤال هنا: ما الذي يدفع شخصيةً عامة، من هذا المستوى الفكري والانتمائي الرفيع، إلى تبنّي موقف القاتل والمحتل والمستوطن؟ ما الذي يمنع رمز النسوية الحديثة عن التطرّق، ولو تلميحًا، إلى وجود احتلال منذ عقود مع ما يرافقه من استيطانٍ وتدمير شعبٍ بأكمله؟ ما الذي يحرم شريكة الشخص الذي ارتبط اسمه بأهم القوانين الإنسانية، لتُضحي مؤيدةً إعدام آلاف الفلسطينيين انتقامًا؟ هل مجرد انتمائها، وهي العلمانية الأقرب إلى الإلحاد، الى عائلة يهودية معروفة، وكذا زوجها، مُبرّرٌ كافٍ لهذا الموقف وغير الإنساني والمشوّه للحقائق وللوقائع والمنحاز لدولة الاحتلال التي تقودُها مجموعة من المتطرّفين اليمينيين؟.
سيسجّل التاريخ أن عائلة بادانتير، "الملحدة والطائفية" معًا، تجمع النقيضين: إلغاء عقوبة الإعدام الفردي، والتشجيع على عقوبة الإعدام الجماعي
يبقى هذا السؤال خطيرا في المفهوم الفرنسي لارتباطه بتابوهات يُسبب التطرّق إليها سيلاً من الاتهامات غير المبرّرة وغير المسندة، وأهمها معاداة السامية. وفي المقابل، يجب ألا يشكّل التهرّب من طرحه، كنعامة تدفن رأسها في الرمال، القاعدة. ولكي ألعب دور محامي الشيطان، أكاد أميل إلى التردّد في اعتماد السبب الوارد أعلاه، لأفضّل عليه موقفًا أكثر ارتباطًا بالإرث الاستعماري والفوقية الحضارية، فقد كان أحد رموز الاشتراكية الفرنسية، جول فيري، يعتبر أن الاستعمار سيرفع من مستوى الحضاري للمسلمين المتخلفين. وقد برز هذا البعد لدى السيدة بادانتير خصوصًا، في تطرّفها في رفض خيارات المرأة المسلمة، واعتبارها مجرّد جارية تخضع لذكوريةٍ مرتبطةٍ بالدين.
في جدل حاد مع شاعر سوري يعتبره بعضهم مهما، وتعليقًا على موقفه الطائفي من الحراك السوري، أجابني بغضب بأنه ملحد فكيف أصفه بالطائفية، فكان جوابي: الإلحاد لا ينفي الطائفية.
سيسجّل التاريخ أن عائلة بادانتير، "الملحدة والطائفية" معًا، تجمع النقيضين: إلغاء عقوبة الإعدام الفردي، والتشجيع على عقوبة الإعدام الجماعي.