بئرٌ قديمة .. بئرٌ أولى .. بئر مهجورة
كتب محمود درويش في كتابه النثري "يوميات الحزن العادي" (1973) أنه، يوما في الخامسة من عمره، ذهبت أمه إلى عكّا ولم تأخذه معها فغضب، فذهب يمشي في شارعٍ ٍيؤدّي إلى عكا التي كانت في مداركه أبعد نقطة في العالم، يفتّش عن أمه، ثم عاد إلى البيت متأخّرا، فوجدها وأهل البيت والجيران يبحثون عنه في كل آبار القرية، فالطفل حين يضيع لا بد أن يكون قد سقط في بئر، ثم بكت أمه وبكى معها. أما المغربي ريان، وهو في الخامسة أيضا، انزلقَ في بئرٍ مهجورةٍ في القرية، ثم صار ما صار. مات، فلم يبكِ مع أمه. والبئر في معاجم العربية (مؤنثٌة يحدُث تذكيرها)، حفرةٌ، أو حفيرةٌ، ذاتُ عمقٍ يُستخرج منها الماء. والتي سقط فيها ريان كانت مهجورةً، تزيد عن ثلاثين مترا. ولم يبلغْنا في تفاسير سورة يوسف في القرآن الكريم، (في حدود ما أعرف) العمقَ الذي كانته البئر التي أسقطه فيها إخوتُه، ثم ذهبوا إلى أبيهم يكذبون إن الذئب أكله. لكن يوسف نجا، لمّا تعلّق بدلوٍ رماه في البئر تاجرٌ مصري. ورميةُ الإخوة أخاهم يوسف في البئر حضرت في شعر محمود درويش غير مرّة، بمحمولاتٍ رمزية واستعارية، عن خيانة إخوة الفلسطيني له، ففي "مديح الظل العالي" (1982): حطّوك في حجرٍ ... وقالوا: لا تسلّم/ ورموك في بئرٍ ... وقالوا: لا تسلّم". وفي مجموعته "هي أغنية .. هي أغنية" (1986)، ثمّة قصيدتُه "أنا يوسف يا أبي"، فيها فائضٌ من الشكوى وعذاب الأسئلة ".. إخوتي لا يحبّونني، لا يريدونني بينهم يا أبي" و"أنت سمّيتني يوسفا، وهمو أوقعوني في الجبّ، واتهموا الذئب، والذئب أرحمُ من إخوتي".
للبئر في مدوّنة درويش الشعرية حضورٌ كثيرٌ ومتعدّد، يبيح سؤال عارفين بشعره عمّا كان سيوحي له خروج ريان ميتا، بعد جهدٍ جبّارٍ أربعة أيام بلياليها لانتشاله حيا. تُراه، كان سينزِع عن البئر معناها مصدرا للماء، البئر التي كانت منجاة يوسف؟ لا نعرف. لقد مرّ الشاعر ببئرٍ قديمةٍ في قصيدته، الباذخة الرهافة "البئر" في مجموعته "لماذا تركت الحصان وحيدا" (1995)، ثم ببئرٍ قديمةٍ أخرى في قصيدته "لم أعتذر للبئر" في "لا تعتذر عما فعلت" (2004). جال في الأولى بين أساطير وحضاراتٍ وجغرافياتٍ عتيقة، ليقيم ما يشبه تلاقيا أو توازيا بين ماضٍ وحاضر، بين أحياء وموتى. يفتتح القصيدة: "أختار يوما غائما لأمرّ بالبئر القديمة./ ربما امتلأت سماءً./ ربما فاضت عن المعنى وعن أمثولة الراعي/ سأشربُ حفنةًَ من مائها./ وأقول للموتى حواليها: سلاما، أيها الباقون حول البئر في ماء الفراشة". وفي مقطعٍ آخر، يرى محمود درويش حالَه يخرج حيّا بعد ساعاتٍ من البئر التي لم يلقَ فيها يوسف. ويختم القصيدة "رمتني للمجهول في البئر: السلام عليك يوم قُتلتَ في أرض السلام/ ويوم تصعَد من ظلام البئر حيا". وفي القصيدة الثانية يقول: "../ قرأتُ آياتٍ من الذكر الحكيم،/ وقلتُ الأرضُ خارج أرضها، واسمي يرنّ على خطاي كحذوة الفرس: اقترب .. لأعود من هذا الفراغِ إليك يا جلجامشُ الأبديُّ في اسمك!.. كن أخي! واذهب معي لنصيح بالبئر القديمة .../ ربما امتلأت كأنثى بالسماء/ وربما فاضت عن المعنى وعما سوف يحدُث في انتظار ولادتي من بئري الأولى".
قال هنا درويش عن بئرٍ أولى، مقرونةٍ بولادته، كأن ثمّة شيئا من تناصٍّ مع جبرا إبراهيم جبرا الذي اختار لسيرة طفولته ويفاعته الأولى (في بيت لحم والقدس حتى سن الثانية عشرة) اسم "البئر الأولى (1993)، وقد أخبرَنا أن هذه البئر هي التي "تجمّعت فيها أولى التجارب والرؤى والأحداث، أولى الأفراح والأحزان، والأشواق والمخاوف". وفي عُرف جبرا، على ما قدّم كتابَه الشفيف، الحياة "ما هي إلا سلسلة من الآبار، نحفر واحدةً جديدةً في كل مرحلة". والبئر في الحياة "إنما هي تلك البئر الأولية التي لم يكن العيش بدونها ممكنا، فيها تتجمّع التجارب، كما تتجمّع المياه، لتكون الملاذ أيام العطش". إذن، بئرٌ مهجورةٌ غادرةٌ حرمت الولد المغربي من بئرٍ أولى، سلبت معنى الحياة من مفردة البئر وإيحاءاتها، مهجورةٌ على غير التي أضفاها يوسف الخال مجازا على جارٍ عزيز، في قصيدةٍ سمّى المجموعة التي ضمّتها في 1957 بعنوانها "البئر المهجورة"، قصيدةٍ أفرط شرّاحٌ ودارسون في تحليلها، رغم بساطتها. مفتتحُها "عرفتُ إبراهيم، جاري العزيز،/ من زمانٍ عرفتُه بئرا يفيض ماؤها/ وسائر البشر تمرّ لا تشربُ منها، لا/ ولا ترمي بها، ترمي بها حجر". .. وريان كان يفيض طفولةً، وأحلاما، أبعدوا عنه صخورا ورملا وحجارةً، علّه ينجو، ولكن كان ما كان.